✦ أنينُ الحب ✦ بقلم: عدنان الطائي

 

 

أنينُ الحب

بقلم: عدنان الطائي

الشمسُ لا تشكو من كثرةِ الغيوم،
حين أبحرنا معًا — أنا وأنتِ
إلى بلادِ الكناري،
إلى شاطئِ الأحلامِ السعيد،
يقودنا شراعُ الحبِّ الشفيف.

افترشنا خضرةَ الأرض،
وتناثرَت حولنا الزهورُ الحمراء،
وانقلبتْ همساتُنا غناءً
يمتزجُ بزقزقاتِ العصافير،
ونسماتِ الصبحِ الندي،
لتُبدِّد كلَّ عناء.

بعيدًا عن قهقهاتِ الحبِّ الهستيرية،
وشماتةِ الحاسدين،
حلّقتْ روحانا في فضاءِ النقاء،
وارتقينا مع الضوءِ إلى سماءٍ من سناء.

في تلك اللحظة،
أحاطتني هالةٌ من نورٍ أفقدتني التوازن،
استفقتُ من ذهولي،
ووجدتُ نفسي بينَ ناعماتِ الطرفِ شامخاتٍ حِسان،

وبينَ ماءٍ وخُضرةٍ ورُمّان،
ونخيلٍ سامقاتٍ تُظلّلنا حُبًّا ورِضوان.

ومخيالي ينزلقُ منّي نحوَ الأفقِ البعيد...
كأفعى،
تلامسُ هاماتِ الجبال،
وتداعبُ نجماتٍ ناثراتٍ في الأفنان،
كأنّها لؤلؤٌ مكنونٌ
في أعماقِ البحارِ والخلجان.

قلتُ لنفسي:
ما أنا بثلجٍ، وما أنا بنار،
لكنّي أريدُ أن أجعلَ من حبّي
خطوةً فوقَ الماء، لا يطالها العدم،
بل تتركُ أثرًا وبيانًا.

هو تجربةُ اللامتناهي في الصمت،
هو حضورٌ في الوجدان،
هو نبضُ قلبِ الأكوان.

غمرتني السعادةُ
وأنا أُقلبُ لحظاتِ الجنونِ وعصورَ النسيان،
حين خفقَ قلبي فجأةً،
خشيةَ التلاشي
من كلماتٍ كانت على حافةِ الأزمان:

"أحببتكِ... أحبيني."

توقفَ الزمنُ لحظة،
فغَرْتُ فاهي،
والحدسُ يوسوسُ في صدري،
اعتقدتُه وهْمًا من الأوهام،
لكنّ فرحتي انفجرت ثانيةً
حين أحسستُ أنّي أقتربُ منها،
أُلامسُ شرنقةَ أفكارِها،
عسى أن تنسجَ حولي شِباكَها الحريرية
كدودةِ القزّ،
وأختلسَ مقاصدَها
كلصٍّ ناعمِ اليدين.

لكنّي أدركتُ رَحيلَها،
وأنا بأمسِّ الحاجةِ إليها.

لم أكن إنكيدو باحثًا عن الخلود،
ولا شاعرًا خالدًا همام،
والآخرونَ يدافعونَ عن أماكنِ مواتهم،
وأنا مُلتصقٌ بأرضِ الجنان،
نائم، غارقٌ في الأحلام.

أرنو إليها من بعيد،
وهي منتصبةٌ فوقَ التلّة،
كـنسرٍ آشوريٍّ يتأهّبُ للطيران.

صرختُ بجرأة:

أحببتكِ خلال لحظةِ جنون،
حين كنتُ فيكِ ولهان...

لحظاتٌ بعددِ أنفاسِ الهواء،
تلاشتْ بلا حسبان،
لكنّي سأحتاجُ إلى عصورٍ للنسيان،
لأنَّ حبَّها
ملتصقٌ بشغافِ الروح
كالجنينِ في الأرحام.

أسائلُ نفسي:
أهو آتٍ من حبيبٍ سرمديّ؟
أم من قريبٍ يتجهمني
وأنا في حالةِ تيهان؟

في تلك الليلة،
ارتشفنا آخرَ كؤوسِ الندامة،
وانسكبَ الوجدُ والحنينُ كالدخان،
على أنغامِ وترٍ
يُعزفُ من عودِ فنان.

أمطَطتْ روحانا بساطَ الريحِ البغداديّ،
تجوبُ الكواكبَ والمجرّات،
وتتسرّبُ نفسي
في تيهِ بني إسرائيل،
بينما جزئي الأكبر
ينغمرُ في بحرِ الكتمان.

لملمتُ شتاتَ عظامي المتحلّلة،
المنبطحةَ على بساطٍ من عُشبٍ أخضر،
يمتدّ على سفوحِ حبّها،
وأنا أستعيدُ صوتَها الطروب،
بهمساتهِ ونغماتهِ،
كصوتِ ظبيٍ شاردٍ،
وأسنانِها ذاتِ رضابٍ خمريٍّ
ممزوجٍ بماءِ البنفسجِ البارد،
يجري من غديرِ السفوح.

ارتشفتُ منه رشفةً،
فاستوتْ عظامي،
وانتظمَ كياني،
ونظرتُ إلى الأفقِ البعيد نظراتٍ فاترةً متكسّرة،
وهي خلفَ كيانِها الأثيري،
تلوّحُ لي بيدِها الناعمة.

ابتسمتُ لها،
وهي على حافةِ الجبلِ الجليديِّ النافر،
وأنا أتلوّى ألمًا واختناقًا،
صائحًا، منفجرًا، محطّمًا قيدَ حبّها:

أتنهد... أزفر... ثم أتنهد...
أحبكِ حبَّ خلاصي من الحياة،
والموتُ جنبي يتنفّس،
وأنا في ثنايا السكون،
وأنتِ في بدء النشور.

الغموضُ أنا...
وأنتِ الوضوح.

استفاقَ مخيالي من خدرٍ دبَّ في جسدي،
وصداعٍ حطّم رأسي،
وأحاطني شعورٌ من اللاجدوى
في ليلةِ زمهرير.

تساءلتُ نفسي، مداعبًا:
أمَحضُ وَهم؟
أم زلّةُ قلم؟
أم زلّةُ لسانٍ انبرى لها عقلي الباطني؟
أم لوحةٌ رسمَها فنان؟

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية