في كهف أفلاطون: قراءة في تشاؤم جوزيه ساراماغو من حضارة الاستهلاك

 

 في كهف أفلاطون: قراءة في تشاؤم جوزيه ساراماغو من حضارة الاستهلاك

بقلم: عدنان الطائي

   ملخص النص الذي نشره الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو في كتابه «المفكرة» كمقالة قصيرة، يصف فيها العصر الحديث الذي نعيشه حاليا

 (في كل يوم تختفي أنواع من النباتات والحيوانات، مع اختفاء لغات ومهن. الأغنياء يزدادون غنى والفقراء دومًا يزدادون فقرًا. في كل يوم على حدة ثمة أقلية تعرف أكثر، وأخرى تعرف أقل. الجهل يتسع بطريقة مخيفة حقًا. في هذه الأيام نمر بأزمة حادة في توزيع الثروة. فاستغلال الفلزات وصل إلى نسب شيطانية، الشركات المتعددة الجنسية تسيطر على العالم. لا أعرف إذا ما كانت الظلال أم الخيالات تحجب الواقع عنا. ربما يمكننا مناقشة الموضوع إلى ما لا نهاية. ما هو واضح حتى الآن هو أننا فقدنا مقدرتنا النقدية على تحليل ما يحدث في العالم. إذ نبدو محبوسين بداخل كهف أفلاطون. لقد تخلينا عن مسؤوليتنا عن التفكير والفعل. فقد حولنا أنفسنا إلى كائنات خاملة غير قادرة على الإحساس بالغضب، وعلى رفض الانصياع، والقدرة على الاحتجاج التي كانت سمات قوية لماضينا الحديث – إننا نصل إلى نهاية حضارة ولا أرحب بنفيرها الأخير. إن مجمع التسوق (المول) هو رمز عصرنا. لكن لا يزال ثمة عالم مصغر ويختفي بسرعة، عالم الصناعات الصغيرة والحِرف. ففي حين أنه من الواضح أن كل شيء سيموت في النهاية، ثمة أشخاص كثيرون لا يزالون يأملون في بناء سعادتهم الخاصة، وهؤلاء آخذون في التقلص. إنهم يرحلون مثل المهزومين، لكن كرامتهم محفوظة، يعلنون فقط أنهم ينسحبون لأنهم لا يحبون هذا العالم الذي صنعناه لأجلهم

   نبذة تحليلية قصيرة

   ان الكاتب البرتغالي رسم لوحةً سوداوية للعصر الحديث، لا ليبث التشاؤم، بل ليوقظ الضمير الإنساني من سباته. إنه نص أشبه بمرآة مشروخة، تعكس وجوه حضارةٍ في طور الاحتضار، حيث يشيخ الإنسان المعاصر أمام شاشات المولات وتحت نير العولمة، فاقدًا ذاكرته وكرامته وقدرته على الاحتجاج.. حضارته تمضي نحو الفناء المتعدد. اذ يفتتح ساراماغو نصه بملاحظة دقيقة تلامس عمق الأزمة الكونية.. واليك أيها القارئ تفكيكا تحليليا للنص مع توضيح أفكاره الرئيسة ومضامينها العميقة:  

.1 ملاحظات على التدهور الكوني

"في كل يوم تختفي أنواع من النباتات والحيوانات، مع اختفاء لغات ومهن."

المعنى: ساراماغو يشير إلى انقراضٍ متسارع، لا يشمل الكائنات الحية فقط، بل يمتد إلى عناصر الثقافة البشرية كالمهن واللغات، في إشارة إلى ما يمكن تسميته بـ«الاضمحلال المتعدد» الذي يصيب الحياة الطبيعية والإنسانية. يعني هذا السطر ليس مجرد وصف بيئي أو ثقافي، بل تشخيص لانقراض مركب تمس جذوره التنوع البيولوجي واللغوي والمهني، أي ما يشكل روح الإنسان والطبيعة معًا. إننا أمام اندثار تدريجي للهوية، حيث تذبل الحياة في تجلياتها الكبرى والصغرى. العالم يفقد تنوعه البيولوجي والثقافي، مما يشير إلى تآكل الذاكرة الحضارية والهوية الإنسانية.

. 2 اللاعدالة الاقتصادية والاجتماعية

"الأغنياء يزدادون غنى والفقراء دومًا يزدادون فقرًا."

المعنى: انفجار الفجوة بين الطبقات الاجتماعية في ظل العولمة المتوحشة. يعني هنا لا يكتفي بتوصيف الفجوة الاقتصادية، بل يسلط الضوء على عمق الخلل في بنية النظام العالمي الذي تهيمن عليه شركات متعددة الجنسيات، تشفط الموارد وتُخضع المجتمعات لسلعنةٍ قسرية. فهو نظام اقتصادي غير عادل، يكرّس الاستغلال ويحوّل الثروات إلى القلة على حساب الأغلبية.

.3 التفاوت المعرفي والخطر الثقافي

"ثمة أقلية تعرف أكثر، وأخرى تعرف أقل. الجهل يتسع بطريقة مخيفة حقًا."

المعنى: المعرفة لم تعد متاحة للجميع، بل محصورة في نخبة، بينما الجماهير تغرق في الجهل الممنهج أو اللامبالاة الثقافية. يعني هو لا يصف نقص المعلومات، بل اتساع الفراغ الفكري والانخراط في اللامبالاة العامة، بينما تتكدّس المعرفة في أيدي قلة نخبوية، كأننا نعيش في مجتمع منقسم إلى (يعرفون كل شيء) و(لا يعرفون شيئًا).. يعني سيطرة النخب معلوماتية، واختفاء الثقافة العامة، مما يهدد الديمقراطية والفكر الحر.

    ومن هذه الجدلية استدعى ساراماغو صورة كهف أفلاطون، ليقول بأننا لم نعد نرى الواقع، بل ظلاله وخيالاته. هو عالم من التضليل البصري والفكري، حيث تغيب الحقيقة ويُدار الوعي عبر آليات الإعلام والاستهلاك. في هذا الكهف الجديد، لم يعد الإنسان يشك، يحتج، أو يغضب: (لقد تخلينا عن مسؤوليتنا عن التفكير والفعل... أصبحنا كائنات خاملة غير قادرة على الإحساس بالغضب أو رفض الانصياع). هذه الكلمات تحمل مرارة المثقف الغاضب من الخضوع الجماعي، حيث تحوّل الإنسان إلى كائن منزوع الإرادة، يستهلك دون أن يفكر، ويعيش دون أن يتأمل

. 4 أزمة توزيع الثروات واستنزاف الموارد

"استغلال الفلزات وصل إلى نسب شيطانية، الشركات المتعددة الجنسية تسيطر على العالم."

المعنى: الطبيعة تُستنزف بشراهة غير مسبوقة، لمصلحة رأسمالية متوحشة تمثلها الشركات الكبرى. فيصبح العالم يُدار بمنطق الربح فقط، دون اعتبار للاستدامة أو العدالة.

. 5 الغموض والضياع في الرؤية

"لا أعرف إذا ما كانت الظلال أم الخيالات تحجب الواقع عنا."

المعنى: الواقع مشوش، لم نعد نميز بين الحقيقة والوهم، وهذه إشارة إلى كهف أفلاطون، حيث البشر لا يرون الحقيقة، بل انعكاساتها، ما يجعلهم أسرى الخداع الإعلامي والاستهلاك.

. 6 ضياع القدرة النقدية

"فقدنا مقدرتنا النقدية على تحليل ما يحدث في العالم."

المعنى: لم نعد نفكر أو نحلل بعمق، بل نستهلك دون تفكير بسبب ضمور العقل النقدي، الذي هو أساس المواطنة الواعية.

. 7 الاستسلام وفقدان الإرادة

"تخلينا عن مسؤوليتنا عن التفكير والفعل... غير قادرة على الإحساس بالغضب... أو الاحتجاج."

المعنى: تحول الإنسان إلى كائن سلبي خامل، فاقد للغضب النبيل والمقاومة. وهذا يعني نهاية الإنسان الفاعل، وبداية الإنسان السلبي، المتلقي فقط.

. 8 نهاية الحضارة

"إننا نصل إلى نهاية حضارة ولا أرحب بنفيرها الأخير."

المعنى: ساراماغو يرى أننا في مراحل الاحتضار الحضاري، لكنه لا يتأسف على هذا المصير، كون نقد حضارة المظاهر، السوق، والاستهلاك، قد أضاعت القيم الإنسانية.

. 9 رمزية "المول"

"مجمع التسوق (المول) هو رمز عصرنا."

المعنى: المول يمثل الاستهلاك، الفراغ، والسطحية. فهو ليس المول مجرد مكان للتسوق، بل هو معبد الاستهلاك، حيث تختزل هوية الإنسان في "ما يشتريه"، لا في "ما يؤمن به" أو "ما يصنعه". وهكذا يصبح المول مرآةً حضارية مشوهة، تمتصّ المعنى من الوجود. وبالتالي يكون انتصار المادة على المعنى، وتحول الإنسان إلى مستهلك لا مفكر. 

.10 انقراض البدائل الصادقة

"عالم الصناعات الصغيرة والحِرف يختفي بسرعة."

المعنى: الأصالة في العمل والحياة تتلاشى بسبب انهيار المجتمعات الصغيرة المنتجة، التي كانت تحمل معنى ومهارة وروحًا إنسانية.

.11 الأمل النبيل والانكماش

"ثمة أشخاص كثيرون لا يزالون يأملون... يرحلون مثل المهزومين، لكن كرامتهم محفوظة."

المعنى: رغم كل شيء، هناك من يحاول بناء حياة صادقة، لكنهم ينسحبون بهدوء وكرامة. رغم هذه الصورة القاتمة، لا يخلو النص من وميض أمل، ولكنه أمل حزين، خافت، ومسكوت عنه، إنهم الصامتون الرافضون، لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم لا يرغبون في المشاركة في هذا العبث الجمعي. إنهم المنسحبون بوعي، الذين لم تعد تُغريهم عوالم الاصطناع، فينصرفون إلى داخلهم، حاملين معهم ما تبقى من روح الإنسان. وهذا هو رفض واعٍ للعالم الزائف، وانسحاب أخلاقي بدلاً من الانصهار في عالم لا يشبههم.

.12الجملة الأخيرة كمفتاح للنص

"لأنهم لا يحبون هذا العالم الذي صنعناه لأجلهم."

المعنى: النقد ليس للعالم كما هو فقط، بل للفاعل الجمعي: نحن. وهي دعوة للتأمل الذاتي وتحمل المسؤولية عن الانهيار القائم.. أي نحن من صنعنا هذا الخراب، يوجه ساراماغو إصبع الاتهام لا إلى نظام مجرد، بل إلى الذات الجمعية: "لأنهم لا يحبون هذا العالم الذي صنعناه لأجلهم." إنها جملة تحمل إدانة مزدوجة: من جهة، لمن ما زالوا يصرّون على إنتاج هذا العالم الخرب، ومن جهة أخرى، لمن ارتضوا الصمت والانسياق. فالهزيمة ليست قدرًا، بل نتيجة لاختيار.

خاتمة: هل ما زالت هناك إمكانية للفعل؟

   هذا النص القصير مكثّف ووجودي، يعبّر عن تشاؤم ساراماغو تجاه العالم الحديث، ولكنه أيضًا دعوة مبطّنة للصحوة، إذ يُذكّرنا بأن فقدان الغضب، النقد، والاحتجاج، هو فقدان لإنسانيتنا ذاتها، فهو ليس صرخة يأس بقدر ما هو دعوة أخلاقية وفكرية للاستفاقة. إنه يضع القارئ أمام مسؤوليته، لا كمتلقٍ سلبي، بل كفاعل محتمل. فبين المول وكهف أفلاطون، وبين فقدان الغضب وشجاعة الانسحاب، ثمة مساحة ضيقة نحتاج أن نعيد احتلالها: مساحة الإنسان الناقد، الغاضب، الرافض، الذي لا يزال يرى العالم ممكنًا، لا منتهيًا.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع