قصة قصيرة الأيام الخوالي.. رحلة الكاهن الصغير

 

قصة قصيرة

 الأيام الخوالي.. رحلة الكاهن الصغير

بقلم عدنان الطائي

حين وطأت قدمي الماء، شعرت ببرودة تسري في عظامي، وكأن الأرواح التي كنت أراها في الظل قد انتقلت إلى داخلي. لا صدى لأنشودة النجوم، ولا دفء من لهب الموقد، فقط صمت كثيف يعج بالاحتمالات. سحبت سهمًا من جعبتي، وغرسته في الأرض، قلت: "إن عادت الآلهة، فليكن هذا دليلٌ إليّ.. مددت يدي إلى الماء... تجمدت. ارتجف النهر فجأة، وكأن شيئًا نهض من قاعه، وبدت لي هيئة من ضوء وظلال، لا وجه لها، لكنها نادتني: عد، يا ابن الكاهن، لم يحن وقتك بعد..." ارتجف قلبي..  بعد فترة وجيزة انفتحت عيناي، على ضفتي نهر الفرات، تتخلل مياهه زقورة بابلية قد تربعت على زرقتها، يحرسها ملك عادل، حمورابي وهو حاملا مسلته بقوانينها، يسوط ظهر فرسه النافر؛ قوانين قد شُرعت على نحو متقن، محرّم عبور النهر العظيم.. محرّم النظر إلى أرض الآلهة.. محرّم الدخول إلى مساكن الأرواح، رغم انه مسكون بالأرواح والشياطين. أبي كاهن، رافقته إلى أماكن الأموات المجاورة.. سمعت صوته: (لا تنس أنك ابني، لا تنس الكهانة ولا تخون الدم). نظرت إلى السماء، ثم إلى النهر... وكان القرار ان توقفت عند الباب حينما ولج أبي بيتا تسكنه الأرواح، وهن قلبي وتضاءل، لا يليق بابن كاهن أن يظهر خوفه، ناولني بقطعة معدن، حدق فيّ بعينين تخلط بين الخوف والرجاء، أمسكت بها، ولم أمت، تهللت أساريره حين علم أنني حقا ابنه وسوف أكون يوما كاهنا، وأنني سأكون يومًا كاهنًا مثله. حدث ذلك عندما كنت لم أزل صغيرا، دون أخوتي الصيادين الماهرين.. كنت أتعرض لعقاب أشد من إخوتي الصيادين، الذين يسخرون من تعاويذي ويرمونني بأصداف الأسماك  ناولني أبي قطعة لحم شهية، أخلدني إلى ركن دافئ قرب الموقد، وهو يرمقني مليا بنظرة، غمرته بهجة عارمة لكوني مؤهلا لأكون كاهنا؛ لكنه ظل يعاقبني حينما أطرب زهوا أو أجهش في البكاء دونما سبب، كان عقابه حقا اشد قسوة مما هو لإخوتي، انقضت الأيام الخوالي، سُمح لي بارتياد أماكن الأموات والبحث عن معدن، تعلمت المسالك التي تنتهي بتلك المساكن، ولم اعد اشعر بالخوف إن رأيت العظام، وهي خفيفة وعتيقة وأحيانا تتفتت إلى غبار عند اللمس الذي هو بحد ذاته خطيئة كبيرة. تعلمت الأناشيد والتعاويذ وإيقاف النزيف من الجرح وأسرار عديدة أخرى. قلت لأبي آن الأوان لأقوم برحلتي.. هب لي الإذن بذلك. نظر طويلا وهو يُمسّد لحيته. نعم آن الأوان. نظرت إلى دخان النار وأخبرته بما رأيت وراء النهر العظيم، ارض أموات ممتدة تطوف فيها الآلهة، كانت عينا أبي صارمتين عندما أخبرته بذلك، لم يعد أبي وإنما كان كاهنا قال: (هذا حلم متين ومن المحتمل أن يهلكك) لكن الحلم صار في قلبي أثقل من أن يُنسى. والدخان يطوف متموجا وأنا اشعر بالدوار، تلاشت كلماتي (انه حلمي.. لست بخائف) وهم ينشدون أغنية النجوم في الهيكل الخارجي كأنها أزيز نحل داخل راسي. ناولني قوس وثلاثة أسهم، نظرت الى المدى ثم الى المجهول الذي يلوح لي من وراء الضباب، رفعت قدمي، عبرت السهم المغروس، وسمعت انكسار شيء خلفي. لم ألتفت. وهو يقول أخذها.. محرم السفر إلى الشرق، محرم عبور النهر، محرم الذهاب إلى موضع الآلهة، ربما ستكون كاهنا عظيما، لكنك ستبقى لي ابنا حتى لو أهلكتك هذه الأحلام. والآن انطلق في رحلتك.

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية