سكوتٌ ليس من ذهب: قراءة نقدية لمقال "سكوتنا نطق" وخطاب السيد مقتدى الصدر
سكوتٌ ليس من ذهب: قراءة نقدية لمقال
"سكوتنا نطق" وخطاب السيد مقتدى الصدر
في مقاله الموسوم
"سكوتنا نطق... قراءة سيكولوجية في خطاب السيد مقتدى الصدر"، يحاول
الأستاذ الدكتور مهدي علي دويغر الكعبي أن يُقدّم لنا تحليلاً نفسيًا وفلسفيًا
لخطاب مقتدى الصدر الأخير، ويمنحه عمقًا يتجاوز ما هو سياسي إلى ما هو رمزي
ووجداني وروحي. غير أن المقال، على ما فيه من اجتهاد لغوي، قدّم قراءة أحادية
وانتقائية، أغفلت السياقات الواقعية والسياسية الحاكمة، بل وذهب بعيدًا في تبرئة
ساحة التيار الصدري وزعيمه من المسؤوليات الجسيمة التي يتحمّلها في الواقع العراقي
المعاصر.
أولاً: حين يكون السكوت تواطؤًا
"سكوتنا نطق"،
عبارة تتكرر في أدبيات مقتدى الصدر، وكأنها تعني فضيلة أخلاقية أو موقفًا نبيلاً،
لكنها في السياق العراقي ليست أكثر من تورية سياسية تُستخدم لتبرير الانسحاب من
مواجهة الاستحقاقات أو التهرّب من المسؤولية. فالسكوت لم يكن يومًا موقفًا مشرفًا
حين احترق العراق بنار الفساد والميليشيات والسلاح المنفلت، لا سيما وأن التيار
الصدري كان لاعبًا أساسيًا في جميع تلك المراحل.
ثانيًا: ذاكرة تشرين لا تنسى
كيف يمكن لخطاب يدّعي
الدفاع عن "الشعب الصامت" أن يمرّ مرور الكرام على الجرائم التي ارتُكبت
بحق شباب تشرين؟ هل نسي الكاتب – أو أراد أن ينسى – دور ميليشيا "القبعات
الزرق" التي كانت اليد الباطشة التي قُمعت بها التظاهرات؟ أليس من التناقض أن
يصوَّر الصدر كناطق باسم الصامتين، وهو الذي أمر أتباعه بضربهم وإخراجهم من
الساحات؟
ثالثًا: التعمية الفلسفية… والتنظير المجاني
يحاول المقال أن يضفي
على خطاب الصدر طابعًا فلسفيًا وجوديًا، ويقارنه بخطاب النبوة والوعي الجمعي
ومفهوم الضمير المقاوم. غير أن الحقيقة تقول إن مقتدى الصدر لم يقدّم مشروعًا
فكريًا ولا سياسيًا واضحًا، بل لطالما اعتمد على الغموض والتلميح والانسحاب
المفاجئ والعودة الانفعالية. وهو أبعد ما يكون عن "الفيلسوف القائد" أو
المفكر العضوي الذي يسعى لبناء دولة أو وعي جمعي. إنما هو زعيم تيار ديني–شعبي،
يعتمد على الولاء المطلق، والخطاب العاطفي، وتقديس الزعامة.
رابعًا: من يُحاسب الفاسدين؟
منذ سنوات والتيار
الصدري يشارك في الحكومات المتعاقبة، ويُمنح مناصب ووزارات. وما من مرة حوسب فيها
مسؤول فاسد ينتمي لهذا التيار. وكلما انكشف ملف، كان الصدر يكتفي ببيان مقتضب يعلن
فيه "البراءة من الفاسدين"، دون أن يسمي أحدًا أو يطالب بمحاكمة أحد، ثم
يمضي كأن شيئًا لم يكن. فهل هذا هو مفهوم "العدالة الثورية" التي تحدّث
عنها المقال؟
خامسًا: تسليع الدين والرمز
ينتقد المقال تسييس
الشهداء، لكنه يتناسى أن الصدر نفسه ارتكز في صعوده السياسي على رمزية والده محمد
محمد صادق الصدر، واستثمرها حتى أصبحت هي الأساس الذي يُبقيه في المشهد. فكيف
يُمكن تبرئة شخص يستخدم الدين والرمز العائلي والطاعة العاطفية لبناء شرعية
سلطوية؟ أليس هذا تسليعًا صريحًا للمقدّس؟
سادسًا: بين التغريد والقرار
ما يحتاجه العراق ليس
تغريدة جديدة من زعيم متردّد، بل مشروع دولة واضح. دولة تفصل بين الدين والسياسة،
وتحاسب الفاسدين، وتمنع عسكرة المجتمع، وتحمي المتظاهرين لا أن تقتلهم. إن
التغريدات لم تبنِ أوطانًا، ولا تُسكت جوعًا، ولا تُوقف نزيف دم.
خلاصة القول
المقال الذي أراد أن
يُجري قراءة سيكولوجية لخطاب السيد الصدر، انتهى إلى تجميل صورة باهتة، وتبرئة
زعيم تيار من حقائق دامغة لا يمكن إنكارها. السكوت الذي
يمارسه الصدر ليس مقاومة رمزية، بل هو تواطؤ مع نظام فاسد شارك فيه، واستفاد منه،
وسكت عنه حين وجب الصراخ. والقيادة لا تُقاس ببلاغة التغريدة، بل بوضوح
الموقف، وشجاعة الاعتراف، وجرأة التغيير. ولا يزال
الشعب ينتظر من يتحدث باسمه بصدق… لا من ينطق وهو صامت.
تعليقات
إرسال تعليق