نثرا ادبيا أنين الحب

 

نثرا ادبيا

أنين الحب

بقلم عدنان الطائي

الشمس لا تشكو من كثرة الغيوم حين أبحرنا معا، أنا وأنتِ إلى بلاد الكناري.. إلى شاطئ الأحلام السعيد، يقودنا شراع الحب الشفيف. افترشنا خضرة الأرض وزهورا حمراء حولنا وانقلبت همساتنا غناء.. امتزجت معها زقزقات العصافير مع نسمات الصبح الندي، مبددة كل عناء.. بعيدة عن قهقهات الحب الهستيرية وشماتة حاسد.. حلقت روحينا طربا في سمائها الشفيفة بكل سناء.. حينها وجدت نفسي تحيطني هالة من نور أفقدت توازني للوهلة الأولى، استفقت من ذهولي وأنا بين ناعمات الطرف شامخات حسان، وبين ماء وخضرة ورمان، ونخيل سامقات تظللنا حبا ورضوان، ومخيالي ينزلق مني نحو الأفق البعيد كأفعى.. يلامس هامات الجبال والنجوم الناثرات في الأفنان.. كأنها لؤلؤ مكنون في أعماق البحار والخلجان. ألوم نفسي ما أنا بثلج وما أنا بنار لأجعل من حبي إن سار على الماء لا ينال العدمان، بل أريد أن يترك أثرا وبيان، لأنه تجربة اللا متناهية للصمت، هو حضور وحقيقة في الوجدان، هو نبض قلب الأكوان. غمرتني السعادة وأنا أُقلبُ لحظات الجنون وعصور النسيان..  خفق قلبي فجأة خشية اللاتلاشي من كلمات كانت على حافة الأزمان (أحببتك.. أحبيني). فغرتُ فاهي، والحدس يوسوس في صدري اعتقدته وهما من الأوهام.. غمرتني الفرحة ثانية حين أحسست باني اقترب منها، أُلامس شرنقة أفكارها، عسى أن ينسج حولي شباكها الحريرية كدودة القز واختلس مقاصدها كلص ناعم اليدان.. فأدركتُ رحيلها وأنا بمسيس الحاجة إليها، لم أكن أنا انكيدو باحثا عن الخلود ولا شاعر خالد همام، والآخرون يدافعون عن آماكن مواتهم، وأنا ملتصق في ارض الجنان.. نائم، غارق في الأحلام.. أرنو إليها من بعيد، وهي منتصبة فوق تلك التلة مثل نسر آشوري يتأهب للطيران.. صرختُ بجرأة في موقف جريء: أحببتكِ خلال لحظة جنون حين كنتُ فيك ولهان..  بضع ثوان عمرها بعمر فقاعة الهواء، تلاشت بلا حسبان.. بيد أني سأحتاج إلى عصور للنسيان.. لان حبها ملتصق بشغاف الروح كالجنين في الأرحام.. وأنا أسائل نفسي: أ هو آت من حبيب سرمدي، أم من قريب يتجهمني وأنا في حالة تتوهان؟  عند تلك الليلة ارتشفنا خلالها آخر كؤوس الندامة وتفاعل الوجد والحنين تدريجيا، يتصاعد كالدخان.. مع أنغام كل وتر يُعزف من عود فنان.. حتى أمططتْ روحينا بساط الريح البغدادي تجوب الكواكب والمجرات.. تسربلتْ نفسي في تيه بني إسرائيل وجزئي الأكبر ينغمر داخل بحر الكتمان.. لملمت شتات عظامي المتحللة المنبطحة على بساط عشب اخضر، ممتد على سفوح حبها، وأنا أتذكر صوتها الطروب بهمساته ونغماته كصوت ظبي شارد وأسنانها ذات رضاب خمري ممزوج بماء البنفسج البارد يجري من غدير تلك السفوح، ارتشفتُ منه رشفة، جعلتني مستويا، مرمما عظامي، انظر إلى الأفق البعيد نظرات فاترة متكسرة وهي خلف كيانها الأثيري، تلوح لي بيدها الناعمة، فابتسمتُ لها وهي على حافة ذلك الجبل الجليدي النافر، وأنا أتلوى ألما واختناقا، صائحا، منفجرا، محطما قيد حبها، أتنهد.. ازفر ثم أتنهد.. احبك حب خلاصي من الحياة.. والموت جنبي حي يتنفس وأنا في ثنايا السكون وأنت في بدء النشور.. الغموض أنا، وأنت الوضوح. فاستفاق مخيالي عن خدر دب جسدي وصداع حطم راسي يحيط بي شعور من اللاجدوى في ليلة زمهرير. تساءلت نفسي مداعبا: أمحض وهم، أم زلة قلم، أم زلة لسان انبرى لها عقلي الباطني أم لوحة شكلها فنان؟!

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية