الدولة العميقة: شبكة الهيمنة بين الفساد والقمع.. وأين موقع الفقراء منها؟

 

     الدولة العميقة هي مفهوم يشير إلى شبكة غير رسمية من المؤسسات والجهات الفاعلة داخل الدولة، التي تعمل من وراء الكواليس للحفاظ على السلطة والتأثير على القرارات السياسية والاقتصادية، بغض النظر عن تغيّر الحكومات الرسمية. هذه الشبكة قد تتكون من عناصر في الجيش، المخابرات، القضاء، الأجهزة الأمنية، رجال الأعمال، والإعلام، الذين يسعون للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم. 

أصل الدولة العميقة وغاياتها 

    ظهر المصطلح في تركيا خلال تسعينيات القرن العشرين، عندما كُشف عن وجود شبكة داخل الدولة (عرفت باسم "جناح غلاديو") تعمل لحماية النظام من أي تهديدات، سواء كانت خارجية أو داخلية، لكن بأساليب غير قانونية. وانتشر لاحقًا ليشمل أنظمة أخرى في الشرق الأوسط، أوروبا، وحتى الولايات المتحدة، حيث يُستخدم لوصف القوى غير المنتخبة التي تتحكم في السياسات بعيدًا عن الديمقراطية الحقيقية. 

هل الدولة العميقة نزيهة أم أداة هيمنة؟ 

🔹 إذا نظرنا إليها من زاوية إيجابية، فقد تكون الدولة العميقة ضرورية أحيانًا لاستقرار الدول في مواجهة التغيرات المفاجئة أو التهديدات الخارجية، خاصة في دول غير مستقرة سياسيًا. وقد تدّعي أنها تعمل لحماية الأمن القومي، منع الفوضى، أو الحفاظ على النظام الدستوري

🔹 أما من الزاوية السلبية، فهي غالبًا ما تُستخدم كأداة هيمنة مجموعة من النخب على السلطة، من خلال الترهيب، الرشوة، التلاعب بالانتخابات، وخلق نظام غير شفاف تتحكم فيه المصالح الخاصة بدلًا من الإرادة الشعبية. وفي هذه الحالة، تصبح الدولة العميقة دولة "داخل الدولة"، تحكم فعليًا دون مساءلة، مما يقود إلى الفساد والاستبداد 

من هم العاملون فيها؟ 

من يعمل في الدولة العميقة هم غالبًا: 

1. أجهزة الاستخبارات والأمن – التي تمتلك معلومات سرية تستخدمها للضغط والسيطرة. 

2. القيادات العسكرية – التي يمكن أن تتدخل بشكل مباشر عبر انقلابات أو تحالفات خفية. 

3. القضاء المُسيس – الذي يشرعن القرارات ويتستر على الفساد. 

4. رجال الأعمال الفاسدون – الذين يمولون هذه الشبكة مقابل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية. 

5. الإعلام الموجه – الذي يتحكم في الرأي العام ويصنع الشرعية المزيفة للسلطة. 

الدولة العميقة في الدول العربية والعراق 

في الدول العربية، غالبًا ما تكون الدولة العميقة مرتبطة بأنظمة حكم استبدادية نشأت بعد الاستعمار، حيث استمرت مراكز القوى القديمة (العسكر، الأمن، رجال المال) في التحكم بالدولة خلف واجهة حكومات مدنية أو برلمانات شكلية.    

  في العراق، بعد 2003، نشأت "دولة عميقة" جديدة يقودها مزيج من الأحزاب السياسية ذات الطابع الطائفي، وميليشيات مسلحة، وقيادات أمنية، تحكمت في مقدرات البلد عبر الولاءات الخارجية، الفساد، وتقاسم الغنائم، مما جعل الحكومة عاجزة عن اتخاذ قرارات وطنية مستقلة. 

الخلاصة 

الدولة العميقة ليست ظاهرة جديدة، لكنها غالبًا ما تكون غير نزيهة، بل أداة بيد قوى غير منتخبة لفرض سيطرتها على الحكم بوسائل غير ديمقراطية. هي ليست مجرد "حكومة ظل" تدير الأمور بشكل مؤقت، بل شبكة متجذرة تمنع أي تغيير حقيقي يخدم الشعب، وتبقي على السلطة بيد مجموعة من المنتفعين، سواء عبر الترهيب أو الرشوة.

     إذا كان تفكيك الدولة العميقة ضرورة وطنية فهي ليست بالمهمة السهلة، خاصة عندما تكون مدعومة من الداخل والخارج، ولها جذور عميقة في مؤسسات الدولة والمجتمع. في حالة العراق، تتشابك عناصر الدولة العميقة مع النفوذ الإقليمي والدولي، مما يجعل القضاء عليها تحديًا أكبر من مجرد تغيير حكومة أو إجراء انتخابات. لكن هناك استراتيجيات يمكن أن تؤدي إلى تقويضها تدريجياً، حتى وإن لم يكن الحل سريعًا أو مباشرًا. 

كيف يمكن تفكيك الدولة العميقة؟ 

1. بناء تحالف داخلي بين القوى المتضررة منها 

الدولة العميقة تعمل على مبدأ "فرق تسد"، حيث تخلق الانقسامات الطائفية، القومية، أو الحزبية لضمان بقائها. الحل يبدأ من تشكيل تحالف وطني عابر للطوائف والإثنيات يضم جميع المتضررين من نفوذها، بما في ذلك: 

القوى السياسية التي ترى أن الدولة العميقة تعيق أي إصلاح حقيقي

فئات الشعب المتضررة من الفساد وسوء الإدارة

النخب المثقفة والمفكرون الذين يمكنهم قيادة الرأي العام

حتى بعض العناصر داخل النظام الذين يمكن أن ينشقوا عندما تتغير موازين القوى

2. كشف حقيقتها أمام الشعب وإفقادها شرعيتها 

الدولة العميقة تعمل في الظل، ولها واجهة شرعية زائفة. يجب التركيز على: 

- فضح ملفات الفساد التي تديرها، وإظهار كيف تستغل موارد الدولة

- تسليط الضوء على تحالفاتها الخارجية التي تجعلها أداة في يد دول أخرى على حساب مصلحة الشعب

- إضعاف تأثيرها الإعلامي من خلال إنشاء إعلام بديل يكشف حقيقتها ويوصل صوت المعارضة

3. خلق ضغوط داخلية وخارجية على مراكز قوتها 

- على المستوى الداخلي: يجب استغلال كل ثغرة داخل النظام، مثل التناقضات بين أجنحة الدولة العميقة نفسها، حيث أن كثيرًا من مكوناتها تتصارع على السلطة، ويمكن استغلال هذا التفكك لصالح مشروع التغيير

- على المستوى الخارجي: الدولة العميقة في العراق تعتمد على الدعم الإقليمي والدولي، ولذلك يجب العمل على تحييد هذا الدعم أو قلبه ضدها، عبر التفاوض مع الدول المؤثرة، وإظهار أن بقاء هذه الدولة العميقة يضر بمصالحهم

4. تقليل اعتماد الدولة على عناصر الدولة العميقة 

من أهم أسباب بقاء الدولة العميقة هو تحكمها في الاقتصاد والأمن. لذا، لا بد من: 

🔹 إنشاء بدائل اقتصادية تقلل من احتكارها للموارد، مثل تعزيز القطاع الخاص المستقل عن نفوذها

🔹 إصلاح أجهزة الدولة تدريجيًا عبر استبدال العناصر الفاسدة بعناصر وطنية مخلصة

🔹 تطوير مؤسسات أمنية موازية لا تكون خاضعة لنفوذ الدولة العميقة، مثل تقوية الجيش الوطني المهني غير المسيس

5. توظيف الأزمات ضدها 

كل الأنظمة الفاسدة تصل إلى مرحلة تضعف فيها بسبب الأزمات التي تسببها بنفسها، مثل: 

- الفساد المالي والإداري الذي يؤدي إلى انهيار اقتصادي

- القمع السياسي الذي يولد انفجارات شعبية غير متوقعة

- التدخلات الخارجية التي قد تغير مواقف بعض القوى الداعمة لها

في هذه اللحظات، يمكن للقوى المعارضة أن تستغل الانهيار لكسب مزيد من النفوذ وفرض تغيير جذري. 

لماذا العراق حالة خاصة؟ 

العراق يواجه مشكلة أن الدولة العميقة ليست محلية فقط، بل هي مزيج من نفوذ إيراني – أميركي – ميليشياتي – حزبي، مما يجعل أي محاولة لتفكيكها تصطدم بقوى داخلية وخارجية لا تريد فقدان نفوذها. 

لكن رغم ذلك، فإن: 

- التغيرات الدولية (مثل تصاعد التنافس بين الصين وأميركا) قد تؤدي إلى تغير مواقف بعض الدول الداعمة لهذه الدولة العميقة

- انفجار أزمة اقتصادية داخلية قد يؤدي إلى انقسام داخلها

- ظهور بدائل سياسية حقيقية يمكن أن يجذب دعمًا داخليًا وخارجيًا لمواجهتها

الخلاصة 

تفكيك الدولة العميقة يحتاج إلى عمل طويل المدى وليس مجرد انقلاب أو ثورة عفوية

يجب ضربها من الداخل عبر تحالفات جديدة، ومن الخارج عبر تحييد الدول الداعمة لها

استغلال الأزمات والتغيرات الدولية قد يوفر فرصة لتفكيكها تدريجيًا.

المشكلة في العراق ليست فقط وجود الدولة العميقة، بل أن الشعب أصبح مستسلماً للوضع، ولا توجد قوة وطنية موحدة تواجهها. الحل يبدأ من كسر هذا الاستسلام، وإيجاد مشروع بديل حقيقي يجمع القوى المتضررة منها.

 عدنان الطائي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع