فلسفة القصيدة النثرية المقفاة وأسباب ظهورها

 

     لطالما كان تطور الشعر العربي مرتبطًا بالتحولات الثقافية والفكرية، حيث لم يكن الشعر مجرد فن، بل كان انعكاسًا للوعي الجمعي وتعبيرًا عن روح العصر. وفي هذا السياق، برزت القصيدة النثرية المقفاة كظاهرة أدبية تثير التساؤلات حول علاقتها بالشعر الموزون والشعر الحر، وما إذا كانت تمثل امتدادًا طبيعيًا للتطور أم مجرد خروج عن القواعد التقليدية.

جذور التحول الشعري

   عند تناول جذور هذا التحول، لا يمكن إغفال التأثير العميق للشعر الأوروبي، خاصة الإنجليزي، على مسار التجديد الشعري العربي. فقد جاء الشعر الحر، كما ظهر عند بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، كرد فعل على النمط التقليدي للقصيدة العمودية، لكنه لم يتخلص تمامًا من سلطة العروض العربي، حيث اعتمد على وحدة التفعيلة بدلاً من وحدة البيت.

    ومع مرور الزمن، ومع تصاعد تيارات الحداثة، ظهر اتجاه يدعو إلى كسر جميع القيود الشكلية التي تحدّ من حرية الشاعر، مما أدى إلى ظهور قصيدة النثر ككيان مستقل، يتجاوز الوزن والتفعيلة، لكنه يظل متمسكًا بروح الشعر من خلال الإيقاع الداخلي والصور الشعرية العميقة.

قصيدة النثر المقفاة: بين الحرية الموسيقية والالتزام الجمالي

    ضمن هذا السياق، ظهرت محاولات جديدة لإضفاء بُعد إيقاعي على قصيدة النثر، ولكن دون العودة إلى الأوزان العروضية التقليدية. ومن هنا جاءت القصيدة النثرية المقفاة، التي حاولت الحفاظ على عنصر القافية كأداة موسيقية، دون أن تكون ملزمة بنظام التفعيلة.

لقد كانت هذه المحاولة ردًّا على ما وصفه البعض بجفاف قصيدة النثر، إذ رأى بعض الشعراء أن التخلص من الوزن والتفعيلة تمامًا قد أفقد النص بُعده الموسيقي، وهو ما دفعهم إلى إعادة الاعتبار للقافية، ولكن بطريقة مرنة وغير منتظمة، تُستخدم حيث تدعو الحاجة الجمالية إليها، وليس كقيدٍ يفرض على النص.

بين الشكل والمضمون: هل الوزن ضرورة شعرية؟

     إن الجدلية الدائمة بين الشكل والمضمون في الشعر لا تزال قائمة، فبينما يرى البعض أن الوزن والتفعيلة عنصران جوهريان في تكوين الشعر، يرى آخرون أن جوهر الشعر يكمن في شاعريته لا في شكله، أي في قدرته على خلق صور وإيحاءات تنقل الإحساس والتجربة.

في هذا الإطار، يمكن القول إن القافية في قصيدة النثر المقفاة ليست بديلاً عن الوزن، بل هي محاولة لإيجاد إيقاع بديل يعزز الطابع الموسيقي للنص دون أن يُثقل كاهله بالقيود العروضية. ومن هنا، فإن استخدام القافية يجب أن يكون اختيارًا فنّيًا يخدم النص، لا مجرد التزام تقليدي.

نحو رؤية حداثية للقصيدة العربية

     لقد شهد تاريخ الشعر العربي العديد من الموجات التجديدية التي قوبلت في البداية بالرفض، لكنها سرعان ما وجدت مكانها في المشهد الأدبي. فالشعر الحر، الذي كان مرفوضًا في بداياته، أصبح فيما بعد جزءًا أساسيًا من التراث الشعري الحديث. وبالمثل، فإن قصيدة النثر المقفاة قد تكون اليوم موضع جدل، لكنها ربما تصبح غدًا نمطًا معترفًا به ضمن أشكال التعبير الشعري.

    إننا اليوم نعيش في عصر ما بعد الحداثة، حيث لم يعد هناك نموذج واحد يُحتذى به، بل أصبح لكل شاعر حرية التجريب والبحث عن أسلوبه الخاص. وبذلك، فإن قصيدة النثر المقفاة ليست مجرد محاولة للخروج عن المألوف، بل هي جزء من تطور طبيعي للأدب العربي، يُثري تنوعه ويفتح آفاقًا جديدة أمام المبدعين.

ختامًا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن تصبح القصيدة النثرية المقفاة نمطًا أدبيًا متكاملًا ومستقلًا بذاته، أم أنها مجرد تجربة عابرة في مسيرة الشعر العربي؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة.

عدنان الطائي

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع