جدلية الديمقراطية بين الضمور والبقاء

 


ليس لنا أن نستغرب كثيرا عندما يبدي الغرب رضاه لذيوع نموذجه السياسي ‏في أنحاء العالم وهو النموذج المفضل الذي تبناه منذ أن دخل الحداثة ، بينما يبدي ‏في الوقت نفسه قلقه على حقيقة هذا الذيوع وقابليته للبقاء ولا يسع الغرب وهو يشهد ‏الديمقراطية التمثيلية تدخل إلى ثقافات أخرى خشية من اتساع مدارك الشعوب وتحديد ‏بوصلتها بين الأمم المتقدمة ، ألا أن الغرب اعتبرها من المسلمات بتفوقه هو ، ‏وبسلامة نموذجه السياسي اثبت انه جذاب إن لم يكن ضاربا بجذوره بعمق في ما ‏وراء الحدود الجغرافية للثقافة الغربية التي شهدت مولده ، وبعد نهاية الحرب الباردة ‏وانهيار المعسكر الاشتراكي وضياع الثقة بالسلطات الدكتاتورية الشمولية في الشرق ‏والجنوب من العالم ، تزايدت فرص التوسع الكبير في انتشار الديمقراطية التمثيلية ؛ ‏سواء نتيجة فشل نموذج التحديث وإعادة تنظيم سياسة تلك الأنظمة الشمولية ‏كمنافسة للديمقراطية أو نتيجة الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي بأيديولوجيته ‏وثقافته ، الأمر الذي دفع بالأحزاب الشيوعية في العالم إلى تأجيل التعامل مع ‏أيديولوجيتها أو مغادرتها بصورة مؤقتة والتسارع لتبني النموذج السياسي الغربي ، ألا ‏وهو الديمقراطية اللبرالية خشية من فقدان شعبيتها وبالتالي ضمورها ، لحين أن ‏ينجلي الطور الديمقراطي الغربي ، من منطلق مبدأ حتمية التغيير للتاريخي كما حصل ‏للطور الاشتراكي بالضمور وظهور الطور الديمقراطي اللبرالي ، والذي من المؤكد أتخذ ‏الأخير طابعا نفعيا غائيا كون منهجه يُمارس ضمن عولمة غربية منفلتة من عقالها ‏يمكن تسميتها (السوبرامريالية) مؤسسة على استلاب ثروات العالم وتجويع العالم ‏وخصوصا الدول الغنية بنفطها وكذلك غياب البُعد الوطني والقومي والديني كفاعل ‏مؤثر وتعيش المجتمعات في ظلها في حالة سيولة وفوضى وتخبط في
المعايير .‏
ومن هذا المنطلق ومحاولة بعض الدول الرجوع إلى الموروث والحفاظ على ‏ايجابياته إزاء طغيان الحداثة ، وإن الديمقراطية التمثيلية أصبحت نوعا من (الملكية ‏المشتركة للإنسانية) وعلامة دالة على النظام السياسي ، برزت تسميات أخرى ‏للديمقراطية التمثيلية كالديمقراطية الحضارية والديمقراطية التوافقية وغيرها من ‏التسميات ، وبعد أن أصبحت قناعة ووعي لدى رجال السياسة في تلك الدول ومنها ‏العراق من أن النموذج السياسي الغربي لا يتلاءم مع عادات وتقاليد دول الشرق ‏كتجاهل هوياتها المتباينة ومحاولة تذويبها ضمن هوية واحدة وإبقاء التمايز أو ‏الصراع الحضاري / الثقافي (صراع الحضارات) قائما خدمة لإستراتيجيتها الجديدة ‏‏(الفوضى الخلاقة) ؛ وبفضل تغلغلها السياسي الشامل أصبحت الديمقراطية أيضا ‏‏(مبدأ) سواء أكانت استثناءا أم لا وحتى من دون (ادلجة) إرسائية مسبقة ، يمكن أن ‏تظهر إلى حيز الوجود كثمرة لحتمية التاريخ أو للضرورة وليس للإرادة . وان تكون ‏وليدة الضرورات الضاغطة وليست وليدة برامج محددة , بعد أن شاعت فكرة الاتجاه ‏المعاكس القائلة إن العالم العربي والإسلامي يبدو رافضا لهذا التغيير بالعناد ، فهو ‏متردد في أن يسلك هذا المسار ويصم أذنيه عن تشجيع الخارج له ، فوقع عالمنا ‏العربي والإسلامي في إشكالية الأخذ بفكرة (الطابع الاستثنائي) الذي اتسم به هذين ‏العالمين بين مداحي الديمقراطية ذوي النزعة العالمية وبين المستشرقين المعتمدين ، ‏وهي نغمة كان لابد من أن تعزز رأي عدد من الدعاة المحليين لمفهوم (الأصالة) ‏الثقافية والدينية واعتبارها من مسلماتهم على أن يبدأ هذا المؤلف الجماعي بمناقشة ‏هذا الطابع الاستثنائي وإمكانية قيام تنظيم سياسي من طراز ديمقراطي حضاري حتى ‏في بيئات معادية للديمقراطية . والتحليل المتعدد الجوانب المعروض هنا للديمقراطية ‏كان يمكن أن يندرج جزئيا على الأقل ضمن منهجية يمكن من خلالها تكشف أوجه ‏الضعف اللصيقة بها والمشاكل التي يثيرها تطبيقه على المنطقة حتى يصل إلى ‏تعريف شافي للديمقراطية وجعلها ترتيبا مؤسسيا يتيح ضمان مشاركة المواطنين بكل ‏أطيافهم وهوياتهم المختلفة للمجتمع الذي ينتمون إليه في اختيار قادتهم عن طريق ‏الانتخاب على أساس التوجه الوطني و تخفيف من غلواء السلطة من خلال عمليات ‏مقايضة ومساومة تجري بين قوى متنافسة قليلة الاهتمام بالديمقراطية والتركيز على ‏تطور المؤسسات وعلى المزايا الاقتصادية كي تضمن الديمقراطية بقائها بصيغتها ‏البدائية على الأقل حتى تغدو تحت عنوان (مجموعة متشابكة من القواعد والبنى ‏والممارسات) . فمن المؤكد أن مثل هذا النهج لم يكن ليستطيع أن يفلت من غربال ‏نقد النظريات المبالغة في ثقافويتها والتي منها المحاصصة الطائفية وهي العدو ‏الطبيعي لهذه الرؤية الميكانيكية إلى حد ما للديمقراطية ... من البداهة عندما يراد ‏الربط بين علمنة المجتمع ودمقرطته سينتج شيوع التعميمات ، ومن هنا لا يمكن ‏القول بأننا نرى مجتمعا مدنيا يقوم بطرق ديمقراطية ، بل نشاهد مكونات تتصارع ‏على السلطة وليس على بناء الدولة المدنية كما يحصل في العراق : وبإيجاز سنكون ‏إزاء سؤالين : هل يمكن أن نرى قيام الديمقراطية في مجتمع ليس مدنيا ؟ وهل يمكن ‏أن نرى مجتمعا مدنيا يقوم بطرق غير ديمقراطي .. أي ديمقراطية بدون ديمقراطيين ؟ ‏فبطبيعة الحال إن هذا السؤال المزدوج يقوم بالطبع على نفي مزدوج ، نفي وجود ‏المجتمع المدني ونفي وجود الممارسة الديمقراطية سواء بسواء في ظل هشاشة ‏الحاضرة العربية والإسلامية في مواجهة تسلط المجتمع القبلي ومؤسساته وقيمه ‏وعاداته وسلوكه أو ضعف قدرتها على تطبيعها وتحديثها لتتواءم مع الحداثة ، مما ‏يؤدي إلى تكاثر عدد الأيتام السياسيين وأيتام السياسة ، لان السياسة أصبحت في ‏هذه الحالة هي الدولة ولا شيء غير الدولة . وإذا وقف المرء خارج الدولة فانه يضع ‏نفسه في موضع الاستبعاد المفترض (ترك السياسة) وينتقل عندئذ إلى موقف اقرب ‏إلى الخيانة الوطنية منه إلى الاختلاف عن المشروع وبالتالي العودة إلى النموذج ‏التقليدي الذي يعتبر أي خروج على الدولة هو عصيان أو تمرد ومن ثم يستوجب ‏العقاب ويصبح السجن والنفي هما المكانان الطبيعيان لكل من يشكك في السياسة ‏القائمة .. فلابد من هنا ان نفصل سلبيات الموروث وأساطير الدين عن السياسة ‏والدولة والذهاب إلى تأسيس دولة مدنية تحكمها القوانين ودستور يتفق عليه من قبل ‏كل المكونات والطوائف وفقا للنهج الديمقراطي التوافقي إن كان المجتمع يضم مكونات ‏طائفية واثنيه متعددة على أن يرأسها رجال حكماء مهنيين (تكنوقراط) ديمقراطيو الفكر ‏والنهج والممارسة وإحكامهم تبنى على أساس العدل والمساواة .. عندها نقول إننا ‏أسسنا دولة مدنية ديمقراطية برجال ديمقراطيون .. غير أنني أجد مشاركة الأحزاب في ‏الانتخابات التي تمثل كل أطياف الشعب كآلية مشروعة ومقبولة لتحقيق التحول ‏السياسي وإنجاز التغيير السياسي على نحو سلمي ، ونقل رغبات ومطالب المواطنين ‏إلى الحاكمين ليتسنى تحويلها إلى مخرجات سياسية ويكونون مشرعين ومراقبين تحت ‏قبة البرلمان .. أما اختيار السلطة التنفيذية فمن الضروري اختيارهم من التكنوقراط ‏ومثقفون سياسيا ونهجا ديمقراطيا شريطة عدم انتمائهم للأحزاب المشاركة في ‏البرلمان كي لا يستغلون من قبل أحزابهم لتنفيذ مآربهم ومصالحهم الحزبية ‏والشخصية وكذلك الحال بالنسبة للسلطة القضائية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع