الآخر ليس الجحيم وحده… بل الأنا المتضخمة أيضًا




عبارة "الجحيم هو الآخرون" التي وردت في مسرحية "جلسة سرية" (Huis Clos) لجان بول سارتر هي واحدة من أكثر العبارات التي أُسيء فهمها. التفسير الشائع هو أن الآخرين هم مصدر العذاب والمعاناة، ولكن ما قصده سارتر أعمق من ذلك بكثير.. لان سارتر لم يكن يقصد أن الآخرين هم الجحيم لأنهم سيئون بطبيعتهم أو لأن العلاقات الاجتماعية مرهقة، بل كان يشير إلى كيف يمكن لنظرة الآخرين أن تقيّد حرية الإنسان وتحبسه داخل صورة محددة عنه. في سياق الوجودية، اذ يرى سارتر أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا، بل تتشكل من خلال أفعال الفرد واختياراته، لكن المشكلة تحدث عندما يرى الإنسان نفسه من خلال عيون الآخرين فقط، فيفقد حريته ويُحبس في تصوراتهم عنه.
كيف يظهر هذا المعنى في المسرحية؟
في المسرحية، نجد ثلاث شخصيات ميتة محبوسة في غرفة مغلقة دون أدوات تعذيب مادية. ومع ذلك، يدركون أنهم يعذّبون بعضهم البعض بسبب الطريقة التي ينظر بها كل منهم للآخر. كل واحد منهم يريد تعريف نفسه بحرية، لكنه يجد أن نظرة الآخرين تحكم عليه وتثبّته في صورة لا يستطيع الهروب منها. وهكذا، يصبح الآخرون بمثابة "الجحيم" لأنهم يمنعون الفرد من أن يكون حُرًا في تشكيل هويته الخاصة. ولكن هناك معانٍ أخرى للعبارة تُفهم من زوايا أخرى:
1. الجحيم الاجتماعي: حيث يصبح الأفراد سجناء في مجتمع يحكم عليهم وفق معاييره وقيمه، مما يمنعهم من تحقيق ذواتهم بحرية.
2. القلق الوجودي: الشعور بأن وجود الإنسان يعتمد على الآخرين في تقييمه، مما يخلق توترًا دائمًا بين الحرية الذاتية والأحكام الخارجية.
3. عذاب الضمير: قد يكون الآخرون "الجحيم" لأنهم يجبرون الإنسان على مواجهة نفسه وأفعاله من خلال نظراتهم وأحكامهم عليه، خاصة إذا كان يشعر بالذنب أو الندم.
إضافة لتلك المعان، هناك معنى اخر أكثر تلامسا لفلسفة سارتر طالما انه كان يؤمن بأن الإنسان مسؤول عن ذاته وعن العالم من حوله فوجدته تفسيرا عميقا ومهم جدًا، وهو يضيف بُعدًا جديدًا اخر لمعنى "الجحيم هو الآخرون". وهو إذا كانت الذات متضخمة وأنانية إلى حد التفرد بالرأي ورفض أي منظور آخر، فإنها بالفعل تحوّل الآخرين إلى "جحيم" لأنهم يُرغمون على العيش تحت سلطة رأي واحد، دون مساحة للنقاش أو الاختلاف. وأود هنا ان اربط هذا التفسير بفلسفة سارتر لإعطائه بُعدا فلسفيا..
كما قلنا ان سارتر كان يؤمن بأن الإنسان مسؤول عن ذاته وعن العالم من حوله، ولكن عندما تتحول هذه المسؤولية إلى تسلّط مطلق، فإنها تصبح قيدًا للآخرين بدلًا من أن تكون ذات حرية. في هذه الحالة نلمس ان:
1. الأنانية المطلقة تُلغي وجود الآخر – الشخص الذي يرى نفسه مركز الكون يرفض الاعتراف بحرية الآخرين، مما يحوّلهم إلى أدوات في خدمته بدلاً من أشخاص مستقلين.
2. الديكتاتورية الفكرية تصنع الجحيم – عندما يحتكر فرد أو مجموعة "الحقيقة المطلقة"، فإنهم يسلبون الآخرين حق التفكير والتعبير، مما يحول المجتمع إلى بيئة خانقة.
3. انعدام التفاعل الحقيقي – العلاقات الإنسانية الصحية تقوم على التبادل والتفاعل، لكن عندما تتضخم الأنا، يتحول الحوار إلى أمرٍ مستحيل، مما يجعل العيش معًا عبئًا لا يُطاق.
وهناك أمثلة على ذلك في الواقع نجد ان:
- القادة المستبدون الذين يفرضون آراءهم بالقوة ويحوّلون مجتمعاتهم إلى سجون فكرية.
- العلاقات الشخصية السامة حيث يُلغى رأي الآخر تحت سيطرة شخصية نرجسية.
- المذاهب الفكرية المتطرفة التي لا تعترف بالاختلاف وتفرض معتقداتها على الجميع.
الخلاصة
سارتر لم يقصد أن الآخرين شر محض أو أن الحياة الاجتماعية بحد ذاتها هي العذاب، بل أن الإنسان يعاني عندما يسمح لنظرة الآخرين بتحديده وحبسه في صورة معينة، مما يفقده حريته في تقرير مصيره. ومن هنا، الجحيم ليس الآخرين بحد ذاتهم، بل طريقة وجودنا بينهم عندما نستسلم لنظراتهم وأحكامهم. وكذلك ،فإن الذات المتضخمة أيضًا قد تكون الجحيم للآخرين عندما تُنكر وجودهم أو تُرغمهم على الخضوع لرؤيتها فقط. الحرية الوجودية التي تحدّث عنها سارتر يجب أن تكون متبادلة، وإلا فإنها تتحول إلى سجن، إما من الداخل (عبر نظرة الآخرين)، أو من الخارج (عبر تضخم الذات). عندها يمكننا وضع هذه القاعدة بقراءة فلسفية.. نجدها كالاتي:
إذا كان جان بول سارتر قد أشار في مسرحيته "جلسة سرية" إلى أن "الجحيم هو الآخرون" بمعنى أن نظرة الآخرين قد تحبس الفرد في صورة ثابتة، فإن هذه الفكرة يمكن أن تأخذ بعدًا آخر عندما ننظر إلى كيفية تحوّل الذات المتضخمة إلى مصدر جحيم للآخرين من خلال:
1. الأنا المطلقة: إلغاء وجود الآخر
عندما تتضخم الذات إلى حد اعتبار نفسها المركز الوحيد للوجود، فإنها تتعامل مع الآخرين كأدوات وليس ككيانات مستقلة. هذا الإلغاء للآخر يخلق بيئة خانقة، حيث لا يُسمح لأي رأي آخر بالوجود، مما يجرد العلاقات الإنسانية من حيويتها وتنوعها.
2. الديكتاتورية الفكرية: احتكار "الحقيقة"
التسلط الفكري هو أحد أوجه الجحيم الاجتماعي، حيث تصبح الذات المتضخمة قاضيًا وحكمًا على كل رأي يخالفها. في هذه الحالة، يصبح الآخر مقيدًا، مجبرًا على التكيف أو الصمت، مما يحوّل الحياة إلى دائرة مغلقة لا يمكن كسرها إلا بالتمرد أو الانسحاب.
3. القمع العاطفي والاجتماعي: العلاقة كأداة للهيمنة
في العلاقات الشخصية، قد يتحول أحد الطرفين إلى قوة مهيمنة تُخضع الآخر لرغباتها، سواء عبر السيطرة العاطفية أو فرض القيم والمعتقدات. هنا، يصبح الجحيم ليس مجرد نظرة الآخر، بل هيمنة الآخر التي تسلب الفرد حريته في اختيار مصيره.
4. الأيديولوجيا المتطرفة: الجحيم الجماعي
عندما تتضخم الذات ضمن إطار جماعي، كما يحدث في المذاهب الفكرية المتطرفة، تتحول إلى قوة استبدادية تسعى إلى إخضاع الآخرين لرؤيتها الخاصة. أي اختلاف يُعتبر تهديدًا، مما يحوّل المجتمع إلى جحيم من الرقابة والتقييد.
خلاصة القول: الجحيم ليس الآخر فقط، بل الذات التي ترفض الاعتراف بالآخر، إذا كان الإنسان يواجه خطر أن يُحبس في تصورات الآخرين عنه، فإنه يواجه خطرًا أكبر عندما يحبس الآخرين في تصوره عنهم. الجحيم إذن ليس فقط في نظرة الآخر، بل أيضًا في الذات التي تنكر حق الآخرين في الوجود المستقل. الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا بالتوازن بين الذات والآخر، حيث يكون لكل فرد الحق في أن يكون ذاته دون أن يكون مصدر عذاب للآخرين. وهذه نظرة فلسفية أخرى تجعل الاخر جحيما من خلال تضخم الانا وتفردها في الراي.

عدنان الطائي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع