العلاقة الجدلية بين الهوية وسلبيات الحداثة

المبدع الذي يستوعب الماضي ويتمثله أولا ثم يتجاوز نحو الحاضر بكل جديد لازم في ‏عملية تشكيل الفكر هي جزء من عملية أوسع في إعادة تشكيل الحياة المجتمعية ‏العامة . وباختصار فالحداثة الغربية في فلسفتها تقوم أساسا كثورة على مبدأ الأصل ‏الثابت والتام ، وهذه من سلبيات الحداثة في مواجهة معضلاتها والتي تأتي في ‏طليعتها إشكالية العلاقة بين الحداثة والهوية في الفكر والثقافة . ومن خلال المسيرة ‏المتعرجة للحداثة العربية على سبيل المثال ، واجهتها وماتزال إشكالية العلاقة بالهوية ‏حيث وضعت هذه الأخيرة بالمواجهة معها ليبرز السؤال عن مدى صحة الفصل بين ‏الهوية والحداثة واعتبارهما قطبين متناقضين . فالهوية لا تكمن في التعبير التراثي ‏عن تجربة الشعوب فحسب ، بل تكمن أيضا في التغيير المستمر والحركية الدائمة ‏اللذين يصبغان التجربة الحياتية على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي للشعب ، ‏فالهوية ليست مفهوما مرتبطا فقط بماضي الشعوب ، بل هو في الوقت نفسه تأكيد ‏على الحضور وفعاليته في الحاضر المتجه نحو المستقبل . وذلك من خلال شبكة ‏علائقية تربط تجليات حضارة شعب في تفاعلها مع حضارات أُخرى . حيث لا نجانب ‏الصواب إذا قلنا : إن التطورات الحديثة بأشكالها المختلفة ومؤسساتها المتنوعة ‏وآفاقها الرحبة لا تُلغي ضرورة الانتماء إلى هوية واضحة المعالم ، ضاربة بجذورها ‏في عمق التاريخ والمجتمع ، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مؤسسات ‏العلم الحديث هي البديل عن الانتماء إلى تلك الهوية ، كما يطلبها (جوزيف شتراير) ‏حينما يقول : (لقد أصبح ممكنا الاستغناء عن الطرق القديمة ، لعثور المرء على ‏هويته داخل مجتمع ما . إن شخصا دون عائلة ، ودون مسكن ثابت ، ودون انتماء ‏ديني ، يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية) .‏
إن هذه النظرة وأمثالها التي تنظر إلى عملية الانتماء إلى هوية وطنية ثابتة ‏ولا على صلة عميقة بالجذور التاريخية والدينية ، تؤكد على ثانوية هذه المسألة ،
لا شك أن هذه النظرة ستدفع باتجاه إلغاء الضوابط الأخلاقية والاجتماعية وتقضي ‏على عملية الاستقرار النفسي التي توفرها الهوية المنسجمة والمعبرة عن التكوين ‏العقدي للناس ‏

إن تمسكنا بالهوية وبشكل إيجابي وواع وترجمة قيمها ومبادئها إلى خطط عمل ‏وبرامج حضارية هو الذي يصنع التطورات والأشكال المؤسساتية الحديثة ، وهكذا ‏تكون الهوية هي صانعة التضامن بين أبناء المجتمع ، وبها يسعى أبناء المجتمع ‏جميعا إلى تحصيل الكمالات الإنسانية والدخول في غمار منافسة الأُمم والشعوب على ‏بلوغ سبل العلم والمدنية والحضارة .‏ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع