المشاركات

خيانة الذات بين قسوة الفقر وتحوّلات الروح

صورة
  خيانة الذات بين قسوة الفقر وتحوّلات الروح نصّ فلسفي — عدنان مهدي الطائي تمهيد بين الاعتياد والسقوط هناك لحظة فارقة في حياة الإنسان؛ لحظة يقف فيها على حافةٍ ضيّقة بين جوع الروح وجوع الجسد، بين أن يحافظ على ما تبقّى من كرامته، أو أن يمدّ يده نحو خيارٍ لم يكن يتخيّله يوماً . قال دوستويفسكي : " بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعودوا؛ إن الإنسان يألف كل شيء… يا له من حقير ." لم يقصد حقارة الإنسان في أصل خلقته، بل هشاشته حين تطول معاناته، وقدرته العجيبة على التكيّف حتى مع السقوط، حتى يصبح القبح مألوفاً مع الزمن .   ولكن … هل يصبح الإنسان حقيراً لأنه يتعوّد؟ أم لأن العالم يضعه في زاويةٍ مظلمة لا مفرّ منها؟ هناك نساءٌ أُجبرتهنّ الحاجة على بيع أجسادهنّ، ورجالٌ انحنوا للفساد كي يسدّوا جوع أطفالهم، وآخرون رموا ضمائرهم في سوق المساومات ليضمنوا لقمة أو حماية أو بقاءً في وظيفة . غير أنّ هؤلاء ليسوا خونةً لذواتهم؛ بل ضحايا عالمٍ خانهم قبل أن يمدّوا أيديهم إليه . فالخيانة ليست في الجسد، ولا في الفعل القبيح المفروض على جائع، ولا في ضعيفٍ انكسر تحت وطأة الحاجة . 1ذن ماهية الخيانة...

الدين في زمن الرأسمالية

صورة
  الدين في زمن الرأسمالية بقلم: عدنان مهدي الطائي تسليع   في عصرٍ لم تعد فيه الرأسمالية نظاماً اقتصادياً فحسب، بل منظومة شاملة تعيد تشكيل الوعي والمعنى، لم يَعُد المقدّس بمنأى عن منطق السوق. فقد امتدّ قانون العرض والطلب ليطال القيم، والرموز، وحتى الإيمان نفسه، ليُعاد إنتاج الدين بوصفه سلعة قابلة للاستهلاك لا تجربة روحية متعالية . لذلك يرى هابرماس أن الحداثة الغربية اختزلت العقل إلى أداة، مما أدى إلى تشيؤ جديد، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في التواصل الإنساني نفسه وحتى الدين .      إن الرأسمالية تقوم على مبدأ التشيؤ: هو تحويل كل ما هو إنساني، أخلاقي، وروحي إلى قيمة تبادلية. وفي هذا السياق، لا يُنظر إلى الدين باعتباره قوة أخلاقية أو وعياً نقدياً، بل وظيفة اجتماعية تُستخدم لتخفيف التوتر، وضبط السلوك، وتبرير الواقع القائم. وهنا يتحقق ما أشار إليه كارل ماركس حين وصف الدين بأنه «تنهد المخلوق المقهور» في عالمٍ بلا عدالة، لا لأن الدين زائف في جوهره، بل لأنه يُستخدم داخل بنية القهر كمسكّنٍ للألم لا كوسيلة للتحرر .      في الرأسمالية ا...

الفكر بين ظلام القمع ونور المقاومة: قراءة فلسفية مقارنة مع غرامشي

صورة
  الفكر بين ظلام القمع ونور المقاومة: قراءة فلسفية مقارنة مع غرامشي بقلم عدنان الطائي     في تاريخ البشر الطويل، لم يكن الفكر يومًا ثمرة وفرةٍ أو ابنَ سلام . إنه يولد غالبًا في لحظة اختناق، ويكبر داخل الأسوار، ويشتدّ عوده كلّما قست الظروف عليه . ولذلك لا يمكن للقمع—مهما بلغت شدّته—أن يُميت فكرة، لأنه ببساطة عاجز عن الوصول إلى مكان ولادتها؛ فالفكرة لا تولد في الشارع، بل في الوعي، ولا تُدفن في المعتقل، بل في الاستسلام . الفكر الحقيقي يبقى حيًّا لأن الإنسان، منذ فجر الوجود، يحمل داخله توقًا لا ينطفئ للحرية، وللسؤال، وللفهم . وحين تُغلق السلطة أبوابها وتُغلق السجون أبوابها، يفتح العقل أبوابه على اتساعها . بل إن الفكر في لحظات القمع يكشف معدنه: يترك الزوائد، ويعود إلى جوهره، ويكتسب نقاءً لا تمنحه له أوقات الرخاء . كيف يبقى الفكر حيًّا تحت القمع؟ 1.   يعيش في العقول قبل الأوراق: يمكن مصادرة الكتب، لكن لا يمكن مصادرة الوعي .   وحين تتعرض الفكرة للمطاردة، تدخل في قلوب الناس وتتحول إلى ضمير جمعي . 2.   يتحوّل إلى رموز ولغة مُشفّرة: يختبئ الفكر في...

الفكر المحاصر بين القديم والجديد: غرامشي، وسجون العراق الحديثة، وعصر العولمة الذي يبتلع المعنى

صورة
  الفكر المحاصر بين القديم والجديد: غرامشي، وسجون العراق الحديثة، وعصر العولمة الذي يبتلع المعنى بقلم عدنان الطائي      في كل زمنٍ تُمحى فيه الحدود بين الحرية والخوف، يقف الفكر وحيدًا أمام ثلاثة وحوش : سلطة الماضي، وسجون الحاضر، وضجيج العولمة الذي يبتلع كل معنى . وإذا كان غرامشي قد كتب رسائله من زنزانة حجرية محاصرة بالفاشية، فإن المفكر العراقي اليوم يكتب من زنزانة أكبر … زنزانة دولة مثقلة بالميليشيات، وبالسياسة الدينية، وبالنفوذ الأجنبي، وبالحداثة الممسوخة التي استوردت كل شيء إلا الإنسان . في العراق، كما في سجن غرامشي، لا يُلاحَق الجسد فقط، بل تُلاحَق الفكرة ذاتها . الفكرة التي تحلم بوطن حر، بنظام عادل، بعقل واحد لا بعشرات العقول المتصارعة فوق أرض واحدة . 1. بين غرامشي وسجين العراق الحديث: القمع كصُقّالٍ للفكر    غرامشي كان يرى أن السجن ليس نهاية الفكر، بل بدايته . والمثقف، كما يقول، ليس من يكتب في زمن الرخاء، بل من يخلق وعيًا مقاومًا حتى وهو محاصر . واليوم، يعيش المثقفون العراقيون تجربة مشابهة، وإن اختلف شكل الجدران : الجدران ليست حجري...

مقال: لماذا فشل التيار المدني في العراق؟ العِلَل البنيوية وأسباب الانهيار الانتخابي

صورة
    مقال: لماذا فشل التيار المدني في العراق؟ العِلَل البنيوية وأسباب الانهيار الانتخابي بقلم : عدنان مهدي الطائي     شهدت انتخابات 11/11/2025 واحدة من أقسى الهزائم التي مُني بها التيار المدني في العراق منذ 2003، بعد ما لم يتمكن بجميع تشكيلاته من تجاوز حاجز (228 ألف صوت)، باستثناء فوز منفرد للبعض، فيما بقيت أغلب القوى المدنية خارج التأثير السياسي الفعلي. هذه النتيجة ليست حدثاً عابراً، ولا مجرد "انتكاسة انتخابية"، بل إعلان واضح عن انهيار بنيوي أصاب المشروع المدني نفسه، الذي فشل في اجتذاب شارع هو أصلاً مدني بطبيعته، ويرفض الطغيان، ويتوق لدولة قانون، لكنه لم يجد في القوى المدنية بديلاً جديراً بالثقة .    ورغم كثافة التحليلات التي صدرت بعد الانتخابات، أغلبها اكتفى بتحميل المسؤولية للمنظومة الحاكمة والمال السياسي والسلاح المنفلت، من دون التوقف عند العلّة الجوهرية داخل التيار المدني نفسه، وهي العلّة التي تآكلت منها قوى مدنية كانت تُعدّ لسنوات "الأمل الأخير" للعراقيين . أولاً: أزمة الزعامة… المرض المزمن للتيار المدني     أكبر عيوب...