الفكر بين ظلام القمع ونور المقاومة: قراءة فلسفية مقارنة مع غرامشي

 

الفكر بين ظلام القمع ونور المقاومة: قراءة فلسفية مقارنة مع غرامشي

بقلم عدنان الطائي

    في تاريخ البشر الطويل، لم يكن الفكر يومًا ثمرة وفرةٍ أو ابنَ سلام. إنه يولد غالبًا في لحظة اختناق، ويكبر داخل الأسوار، ويشتدّ عوده كلّما قست الظروف عليه. ولذلك لا يمكن للقمع—مهما بلغت شدّته—أن يُميت فكرة، لأنه ببساطة عاجز عن الوصول إلى مكان ولادتها؛ فالفكرة لا تولد في الشارع، بل في الوعي، ولا تُدفن في المعتقل، بل في الاستسلام. الفكر الحقيقي يبقى حيًّا لأن الإنسان، منذ فجر الوجود، يحمل داخله توقًا لا ينطفئ للحرية، وللسؤال، وللفهم. وحين تُغلق السلطة أبوابها وتُغلق السجون أبوابها، يفتح العقل أبوابه على اتساعها. بل إن الفكر في لحظات القمع يكشف معدنه: يترك الزوائد، ويعود إلى جوهره، ويكتسب نقاءً لا تمنحه له أوقات الرخاء.

كيف يبقى الفكر حيًّا تحت القمع؟

1.  يعيش في العقول قبل الأوراق: يمكن مصادرة الكتب، لكن لا يمكن مصادرة الوعي.  وحين تتعرض الفكرة للمطاردة، تدخل في قلوب الناس وتتحول إلى ضمير جمعي.

2.  يتحوّل إلى رموز ولغة مُشفّرة: يختبئ الفكر في القصيدة، في الأغنية، في النكتة السياسية، وفي الحكايات اليومية. كل خطاب محظور يجد شكله البديل، ويمرّر معناه من غير أن يُسمّى.

3.  يكتسب قوة أخلاقية: الأفكار التي تتعرض للاضطهاد تكتسب شرعية أخلاقيّة، لأنها تُولد من معاناة الناس، وتتحول إلى صوت للعدالة لا يستطيع أحد أن يسكته تمامًا.

4.  يُعيد تشكيل ذاته وفق الواقع: الفكر الذي لا يتكيّف يموت، أما الفكر الذي يقرأ لحظته فيتجدّد ويستمر.

 غرامشي… حين يصبح السجن معملًا للفكر

   أنطونيو غرامشي، المفكر الإيطالي الذي دوّنت السلطة الفاشية اسمه على قوائم الخطر، لم يمت فكره في سجنه الذي أمضى فيه سنوات طويلة. بل ولد فيه أهم ما تركه للإنسانية: دفاتر السجن ورسائل السجن. كان غرامشي يكتب تحت عين الرقابة، فتحوّل القمع بالنسبة له إلى دافع لصياغة فكر أعمق وأكثر تركيبًا. ومن بين أهم أفكاره التي تخص سؤالنا:

1. الهيمنة الثقافية مقابل القمع المباشر

   رأى غرامشي أن السلطة لا تسيطر بالقوة فقط، بل تسيطر حين تُقنع الناس بأن أفكارها هي “الطبيعية” و“الوحيدة الممكنة”. القمع قد يسكت الأصوات، لكنه لا يصنع هيمنة فكرية. أما المقاومة الثقافية فهي اللحظة التي يبدأ فيها العقل بالتحرر.

2. لمثقف العضوي» وفكرة الاستمرار تحت الظلم

   يقول غرامشي إن المثقف الحقيقي ليس من يكتب في زمن الحرية، بل من يرتبط بقضايا الناس حتى وهو في القيود. فالسجن لم يعزله عن واقعه؛ بل جعله أكثر التصاقًا به.

3. الإرادة… القوة التي تحوّل الضعف إلى فعل

   كان يكرر: تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة.” العقل يرى حجم القمع، لكن الإرادة ترى إمكانية التغيير، وفي هذا التوتر يولد الفكر الحي.

4. السجن لا يقتل الأفكار بل يختبرها

  في رسائله، يصف غرامشي كيف أن القمع جعله يعود إلى الأساسيات: إلى معنى الإنسانية، والكرامة، والعدالة، ودور الثقافة في تحرير الإنسان. كان السجن بالنسبة له أشبه بـ “معمل روحي” يتبلور فيه الفكر ويُصقل.

 مقارنة بين الفكر تحت القمع وغرامشي في سجنه

الفكرة العامة

رؤية المقالة

رؤية غرامشي

مكان بقاء الفكر

الوعي والضمير

المجتمع والطبقات والجماعات الحية

طريقة صمود الفكر

يتحوّل إلى رمز ولغة مبطنة

يصبح إنتاجًا ثقافيًا واعيًا عبر “المثقف العضوي

جوهر المقاومة

التمسك بالفكرة حتى في الصمت

الإرادة المنظمة التي تغيّر الوعي الجمعي

طبيعة القمع

يكشف زيف القوة لكنه يطهّر الفكرة

يمنح الفكر فرصة للتجذّر والتحليل العميق

نتيجة الصراع

بقاء الفكرة وانتقالها بين الأجيال

خلق ثقافة مقاومة تكسر الهيمنة وتغيّر المجتمع

 

خاتمة

   يبقى الفكر حيًّا تحت القمع لأنه ليس شيئًا ماديًا يمكن كسره، بل هو طاقة روحية تُولد من حاجة الإنسان للمعنى والعدالة. وكلما اشتدّ القمع، ازدادت الفكرة وضوحًا، تمامًا كما تبرز النجوم عند اشتداد الظلمة. غرامشي لم يكن وحده شاهدًا على ذلك؛ بل كل مفكر قُمِع ثم عاد فكره ليضيء العالم. الفكرة لا تموت يموت فقط مَن يتوقف عن حملها.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية