الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع



 

المشروع الإبراهيمي هو مفهوم واسع يحمل أبعادًا دينية، ثقافية، وسياسية، ولكن جوهره الفعلي يعتمد على من يروج له والهدف الذي يسعى لتحقيقه. هناك رؤيتان رئيسيتان لهذا المشروع:
1. الرؤية المثالية (الإنسانية - الدينية): وهي التي كما يراها البعض، حيث يُنظر إلى الإبراهيمية كوسيلة لتقليل الكراهية بين الشعوب، استنادًا إلى القواسم المشتركة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية، المسيحية، والإسلام)، كون النبي إبراهيم هو الجدّ الروحي لهذه الأديان. من هذا المنظور، يُفترض أن الإبراهيمية تُشجع على التعايش الديني والتسامح وتعزيز الحوار بين الأديان، مما يحدّ من العداء التاريخي بين بعض المجتمعات.
2. الرؤية السياسية (التطبيع والتكامل الإقليمي): وهي التي يروّج لها البعض، حيث تُستخدم "الإبراهيمية" كأداة سياسية لتمهيد الأرضية لقبول إسرائيل في المنطقة العربية والإسلامية. من هذا المنظور، يتم تسويق الفكرة على أنها نموذج لـ"السلام الديني"، لكنها في الواقع تهدف إلى إعادة تشكيل الهوية الدينية والسياسية للشعوب بما يخدم مصالح القوى الكبرى، وخاصة إسرائيل والولايات المتحدة. بعبارة أخرى، قد تكون الإبراهيمية واجهة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وجعلها دولة مقبولة في المنطقة من منطلق ديني وثقافي وليس فقط سياسي أو اقتصادي.
اما رأيي الشخصي:
أرى أن المشروع الإبراهيمي ليس مشروعًا دينيًا خالصًا يهدف فقط إلى تقليل الكراهية بين الشعوب، بل هو في جوهره مشروع سياسي استراتيجي. لو كان الهدف إنسانيًا بحتًا، لكانت هناك خطوات حقيقية لتحقيق العدالة للفلسطينيين مثل إنهاء الاحتلال وضمان حقوقهم. ولكن الواقع يظهر أن الطرح الإبراهيمي يأتي في سياق التطبيع، حيث تسعى إسرائيل والدول الداعمة لها إلى دمج إسرائيل في المنطقة عبر خطاب ديني ناعم، مما يساهم في إزالة الحاجز النفسي لدى الشعوب المسلمة والعربية تجاه إسرائيل.
إذن، رغم أن الفكرة قد تبدو نبيلة، إلا أن سياق استخدامها الحالي يُظهر أنها أداة لتحقيق مصالح سياسية، وليس مجرد دعوة للتسامح والتعايش.
نعم، يبدو أن تحقيق نهج "الإبراهيمية" كجسر حقيقي للتعايش والسلام بين الشعوب أمرٌ معقد، خاصة عندما يتم توظيفه سياسيًا لخدمة أجندات معينة. الفكرة قد تكون نبيلة من حيث المبدأ، لكنها تصطدم بواقع مليء بالتوترات التاريخية والمصالح المتعارضة من خلال تزمت الشعوب بموروثها هو العائق الاكبر كون الإرث الثقافي والديني الذي يجعل كثيرًا من الشعوب متشددة في مواقفها تجاه "الآخر". حتى لو كان هناك تقارب فكري أو تاريخي بين الأديان، فإن العوامل السياسية والتاريخية عمّقت الفجوة، مما جعل فكرة الإبراهيمية تبدو كواجهة أكثر منها مشروعًا حقيقيًا للتقارب. يبدو أن القيم والتقاليد المتجذرة في الوعي الجمعي تبقى صامدة أمام التغيرات، حتى لو تأثرت جزئيًا.
ففي الشرق، نجد أن الروابط القبلية والدينية والاجتماعية لا تزال تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الهوية والسلوك، رغم مظاهر الحداثة. أما في الغرب، فرغم العلمانية والتقدم، لا تزال بعض الموروثات الثقافية والدينية تؤثر في توجهات المجتمعات، سواء في السياسة، الهوية، أو حتى العلاقات الاجتماعية. ولكن الشعوب بطبيعتها تميل إلى التعايش عندما تُترك لتقرر مصيرها بحرية وكرامة، لكن التدخلات الخارجية والاستغلال السياسي يخلقان توترات وصراعات لا تخدم إلا القوى الكبرى كأمريكا مثلا غالبًا ما تفضل إدارة الأزمات بدلًا من حلها، لأنها تستفيد من الفوضى والانقسامات لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية. إذن، يمكن القول إن المشكلة ليست في الشعوب نفسها، بل في الأنظمة والسياسات التي تتحكم في مصيرها. تلك الأنظمة تميل الى فلسفة تصادم الحضارات، وهي نظرية طرحها المفكر الأمريكي صمويل هنتنغتون ونالت الكثير من الانتقادات.
عدنان الطائي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية