الفكر المحاصر بين القديم والجديد: غرامشي، وسجون العراق الحديثة، وعصر العولمة الذي يبتلع المعنى

 

الفكر المحاصر بين القديم والجديد: غرامشي، وسجون العراق الحديثة، وعصر العولمة الذي يبتلع المعنى

بقلم عدنان الطائي

     في كل زمنٍ تُمحى فيه الحدود بين الحرية والخوف، يقف الفكر وحيدًا أمام ثلاثة وحوش: سلطة الماضي، وسجون الحاضر، وضجيج العولمة الذي يبتلع كل معنى. وإذا كان غرامشي قد كتب رسائله من زنزانة حجرية محاصرة بالفاشية، فإن المفكر العراقي اليوم يكتب من زنزانة أكبر زنزانة دولة مثقلة بالميليشيات، وبالسياسة الدينية، وبالنفوذ الأجنبي، وبالحداثة الممسوخة التي استوردت كل شيء إلا الإنسان. في العراق، كما في سجن غرامشي، لا يُلاحَق الجسد فقط، بل تُلاحَق الفكرة ذاتها. الفكرة التي تحلم بوطن حر، بنظام عادل، بعقل واحد لا بعشرات العقول المتصارعة فوق أرض واحدة.

1. بين غرامشي وسجين العراق الحديث: القمع كصُقّالٍ للفكر

   غرامشي كان يرى أن السجن ليس نهاية الفكر، بل بدايته. والمثقف، كما يقول، ليس من يكتب في زمن الرخاء، بل من يخلق وعيًا مقاومًا حتى وهو محاصر. واليوم، يعيش المثقفون العراقيون تجربة مشابهة، وإن اختلف شكل الجدران: الجدران ليست حجرية بل هي جدران الطائفة، والمليشيا، والدولة العميقة، والاغتيال المعنوي، وتحويل العقل إلى تهمة. ومع ذلك، كما عاش غرامشي، يظل الفكر العراقي ينهض بألف طريقة: في نصٍّ أدبي، في قصيدة، في مقهى، في احتجاج، في صمت امرأة تقرأ، وفي شاب يرفض الانتماء للقطيع.

2. العراق بين القديم والجديد: تناقضات لا تنتهي

   العراق اليوم يقف على جسرٍ مُهدَّد بالسقوط: قدمٌ في الماضي، وقدمٌ في عالم عولميّ لا يعرف الرحمة. القديم يتمثل في سلطة سياسية دينية تتكئ على تراث مُستخدم كأداة قمع، يستند إلى أيديولوجيا الطاعة، وتقديس الزعيم، وتوارث الولاء. أما الجديد فهو عولمة متوحشة دخلت من أبواب الاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا من دون أن تبني أسس الحداثة الحقيقية: حرية، مواطنة، قانون، وتكافؤ. وهكذا يعيش العراقي اليوم في مفارقة قاسية: “حداثة بلا إنسانية، وتقليد بلا روح.”

3. الهيمنة الجديدة… كما رآها غرامشي قبل قرن

  غرامشي كان يحذّر من أن أخطر أنواع القمع ليست السجون بل الهيمنة الثقافية، حين تتحول الأفكار الحاكمة إلى “طبيعية” في نظر الناس. وفي العراق، نرى هذا جليًا: صارت الطائفية “طبيعية، الفساد “واقعًا، التبعية “حكمة سياسية، واختطاف الدولة “قدرًا”. وهكذا يتحول المجتمع من شعبٍ إلى جماهير، ومن مواطنين إلى أتباع، ومن مفكرين إلى صامتين.

4. عصر العولمة… حين يصبح العالم سجنًا كبيرًا

   ما يخيف في العولمة ليس التكنولوجيا، بل ابتلاعها للمعنى. فهي تُغرق الإنسان في تدفق المعلومات، لكنها تسلبه القدرة على التفكير؛ تمنحه حرية الاستهلاك، وتسلبه حرية الوعي. وفي العراق، يتضاعف هذا الخطر: إنسانٌ تائه بين فوضى المعلومات، وخطاب ديني يطالبه بالطاعة، وعالم غربي يريده تابعًا، ودولة عاجزة عن حماية معنى الوطن ذاته.

5. الفكر الذي لا يموت… لأنه لم يُولد من الخوف

   ومع ذلك، رغم كل السجون الظاهرة والمستترة، يظل الفكر حيًّا. يولد كل يوم في العراق: من جرح، من قصيدة، من احتجاج، من قلب أبٍ يحلم بوطنٍ لا يخاف فيه على أولاده، ومن أمٍ لا تريد أن تكتب اسم ابنها في قائمة المفقودين. كما قال غرامشي: (تشاؤم العقل… تفاؤل الإرادة) العقل يرى حجم الخراب، لكن الإرادة ترى إمكانية الخلاص.

خاتمة

    العراق اليوم يشبه غرامشي في سجنه: جسدٌ محاصر… وفكرٌ لا يُقيَّد. لكن الفرق أن العراق ليس سجينًا في زنزانة واحدة، بل في شبكة معقدة من النفوذ، والقيم المتصارعة، والتبعية، والعولمة. ومع ذلك، يظل الفكر العراقي يقاوم، لأنه ليس ابن السلطة ولا ابن الماضي ولا ابن الغرب بل هو ابن الإنسان الذي يبحث عن كرامته في زمنٍ فقد فيه المعنى.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية