حاضرة مكة قبل البعثة بدلالات قرآنية

 

حاضرة مكة قبل البعثة بدلالات قرآنية

       تعتبر البيئة التي شهدت ختم النبوة ذات دلالة مهمة حول علاقة الرسالة بالواقع والسياق الجغرافية والتاريخي الذي بدأت فيه. حيث هناك خلط في المصادر بين البيئة الحضارية المكية التي بعث فيها الرسول (ص) وبين عادات وتقاليد أهل البدو والمناطق غير الحضرية المجاورة لحاضرة مكة، وهم حواضر غير قليلة وعلى صلة مباشرة بأهل مكة، مما أدى إلى ظهور تناقضات في العادات ([1]) والتشكيك في مدينية مكة بوصفها محطة للقوافل ([2]). وإذا تأملنا في القران نجد إشارات خاصة إلى الأعراب وجاء ذكرهم في القران عشرة مرات والذين يكونون عادة حول القرى تتصف عاداتهم بالغلظة والقسوة فوصفهم القران بأشد كفرا ونفاق من أهل الحضر، مما يدل على التفاوت في قيم التعامل مع الرسالة بين أهل القرى وأهل البادية، ولكن ليس كل الأعراب على درجة واحدة في تلقي الرسالة وتعاملهم معها فمنهم من حاربها بقسوة ومنهم من كان اشد إيمانا بها أمثال أبو ذر الغفاري ([3]). أما القبائل الساكنة على محيط مكة وهم القرشيون والذين سموا بهذه التسمية نسبة إلى كلمة قريش التي تعني تجمع شتات تلك العشائر والذي قام بهذه المهمة هو قصي بن كلاب ([4]) هم كانوا أكثر وعيا وذكاء وإنسانية من الجموع البدوية بفضل الاستقرار المالي التي ساعدتهم عليه التجارة في مكة، أدى إلى دخول قيم جديدة منها النزعة الفردية وروح المنافسة مقابل الُمثل الجماعية التي كانت طاغية آنذاك، ويحاول هذا التفسير إبراز حاجة المجتمع إلى قيم جديدة تحافظ على القبيلة. وهذا ما يدعونا إلى اكتشاف مكة في عصر ما قبل البعثة وما أهلها لاحتضان مبعث النبوة الخاتمة وبدلالات قرآنية.

       إذا ذكرت مكة تعود الذاكرة إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ورفعهما القواعد من البيت ونداء إبراهيم في الناس بالحج ودعاء إبراهيم لأهل هذا البيت (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد أمنا وارزق أهله من الثمرات) وبالإشارة إلى قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) وكذلك قوله تعالى:

 (قالوا نعبد إلهاك وإله إبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون) فالعلاقة بين إسماعيل وذريته والبيت الحرام دلالة على التقابل مع اسحق وتوالي الأنبياء من ذريته ، فكانت ذرية إبراهيم قد شرفت بالتاريخ الرسالي والجغرافية المقدسة والمحرمة ، فلئن اختص نسل إسحاق بالأنبياء فان نسل إسماعيل ارتبط بالمكان الذي أصبح مركزا ومآلا للرسالات التي ختمت به لتنطلق إلى العالم بصيغة نهائية تناسب الكونية التي غدت تحتلها مكة وبيتها الحرام ، وهو أول بيت وضع للناس وأصبحت مكة مركزا تاريخيا إنسانيا يستدعينا أن ندعو لمعرفة أحوالها وذلك لفهم الأساس الذي قام عليه الإسلام . فمكة أطلق عليها القران اسم أم القرى لها دلالة على محوريتها بين القرى الأخرى التي ترجع إليها وتقلدها كعاصمة توجه المنطقة ، فموقفها من أي قضية يؤثر في موقف المناطق الأخرى حتى إذا فتحت ودانت بالإسلام تبعها الناس (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) إضافة إلى ما كانت تتمتع به من حركية تجارية بفضل موقعها على الطريق التجاري البري بين اليمن وبلاد الهلال الخصيب ، والقران يحفل بالآيات الدالة على ذلك مشيرا إلى تعابير مالية وتجارية لابد كانت مفهومة ومتداولة مثل : الحساب والميزان والقسطاس والذرة والمثقال والقرض وكذلك ذُكرت المستلزمات التي ترافق عملية التجارة والنقل كالسفن والجواري والمنشآت في البحر ، كما رافقتها ظاهرة الاستثمار بالربا والقرض وهي ظاهرة منتشرة وسورة قريش واضحة الدلالة على الرحلات التجارية البرية وما كان يُعقد فيها من اتفاقيات وعلاقات يدل على وجود ثروات طائلة وبقيت عادات أهل مكة في استقبال القوافل التجارية مستمرة لما بعد الإسلام ، مما يدل على مكانتها التجارية التي كانت تحتلها قبل البعثة . ويستتبع هذه المكانة مستوى من الوعي الضروري الذي أهلهم للقيام بهذا الدور. إذ شكل موسم الحج فيها سوقا تجاريا وثقافيا سنويا مميزا لما وفره الحرم من امن لمكة الذي جاء من قدسيته واحترامه عند الناس (الم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويُتخطف الناس من حولهم). قدسية مكة ومكانتها هذه فرضت بعض الوظائف الدينية والاجتماعية لدى أهل مكة، وهي وظائف متداخلة، فهي اجتماعية باعتبار علاقة الأقوام والقبائل بها ودينية من حيث ارتباطها بالبيت الحرام ورعايته، ومن هذه الوظائف التي أشار إليها القران هي: النسيء وهو تحديد مواعيد الأشهر الحرم من كل عام بما يتناسب مع مصالحهم ([5]) والسقايا وعمارة المسجد الحرام ورعايته.

       هذه الصورة العامة لواقع مدينة مكة تدل على كونها مدينة تمتلك من مقومات النظام ما يؤهلها لقيادة ما حولها من الحواضر ، بل وتنظيم العلاقات واللقاءات بين مختلف القبائل والوفود القادمة إليها ، على الرغم من أن هناك غموض في طبيعة الحكم قبل البعثة فان هناك إشارات قرآنية عديدة إلى بعض الآليات التي كانت سائدة آنذاك في إدارة مكة وقيادتها ، ومن ذلك ظاهرة النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون الشأن العام ، إضافة إلى العديد من المفردات التي تم تداولها في القران والتي تدل على وجود ملامح الشوكة والسلطة والحكم في تلك البيئة ، من ذلك : الجند ، الإثبات والإخراج من مكة ، الملأ ، أولو الأمر ... كل هذه المفردات تدل على مفهوم السلطة ([6]) وبنفس السياق بالنسبة للقضاء وأبرزها مفردة الحكم ومشتقاتها تدل على وجود نمط من السلطة القضائية تحل النزاعات بين الناس وكانت تستند إلى التقليد والعرف ويقوم بها الوجهاء وتتم هذه السلطة بالاختيار([7]) . هذا الإيجاز تحدث عن المعالم العامة لمكة قبل البعثة. أما الشرائح السكانية التي كانت تقطن في مكة فهناك إشارات قرآنية تشير إلى وجود جالية من بعض الأجانب إلى جانب العرب، دخلت الحجاز عن طريق التبشير ممثلة بالنساك والرهبان لنشر الديانة اليهودية والنصرانية، وقد دخل بعض العرب في هاتين الديانتين. لهذه الجالية الأجنبية المقيمة بمكة بما تحمله من أفكار وعادات إضافة إلى الوفود السنوية من مختلف المناطق التي تُفد إلى مكة في موسم الحج أو القوافل التجارية التي تمر عبر طريقها؛ كل ذلك سيكون له دوره في التلاقح الفكري الذي سيكون له الأثر في أفكار وعقائد المكيين. فان لحضور هذه الجاليات دلالة على كون مكة فضاء مفتوحا وإحاطة المكيون بما يجري في العالم وعلى اتصال دائم بما حولهم، كل هذه المعطيات تؤكد المكانة الحضارية التي كانت تمتاز بها مكة مما أهلها لاحتضان الرسالة الخاتمة التي انطلقت إلى العالم المختزل في عالم مكة الأرخبيلي. أما العقائد والأفكار التي كانت سائدة قبل البعثة فقد أشار القران إلى عقائد المجتمع الجاهلي بنسبة تقدر بـ 54% من مجموع الآيات القرآنية التي توزعت على ثلاثة محاور: الشرك، البعث، إنكار الوحي. فجاء وصف المجتمع الذي سبق البعثة بالجاهلية بدلالة قوله تعالى : (الظن بالله ظن الجاهلية ، حكم الجاهلية ، تبرج الجاهلية ، حمية الجاهلية) وان مفهوم الجاهلية المستخدم في القران مستمد من الجهل بمعنى السفه والطيش والإعراض وليس من الجهل الذي هو ضد العلم([8])  ويعتبر وصف الجاهلية وصفا نسبيا ينطبق على الجانب العقدي ولا تصح هذه التسمية من الناحية الثقافية ، فلم يكن المجتمع ما قبل البعثة كما تصوره الكثير من المصادر مجتمعا معزولا عن العالم أو لا يعرف من العلوم شيئا ، بل العكس إذ كان لدى العرب أدب ولغة في غاية التطور وكانت لديهم معارف بالأنساب والتاريخ والفلك ، فضلا عن العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر هو التمييز ضد المرأة المتمثلة في طرق النكاح والطلاق إلى الإرث والوأد وان كانت هناك شريحة من النساء تأخذ دورا اجتماعيا متميزا تنافس الرجل كالتجارة والمشاركة في الدفاع عن المجتمع وقيمه . والجانب الأخر الذي كان سائدا من العادات هو ظاهرة الولاء والعصبية بين أفراد القبيلة ومن يدخل في حلفهم الذي بموجبها ينظم المجتمع ويقوده ويضمن فيه الأمن والحفاظ على الحوزة ووحدة القبيلة وقد استثمر الإسلام بعض الجوانب الايجابية مثل: التآلف والتآزر ومساعدة الضعيف والجوار واستنكر الجانب السلبي منها مثل الثأر وسفك الدماء ومناصرة القبيلة سواء كانت على حق أو على باطل، إضافة إلى هذه العادات كانت ظاهرة الطبقية والرق منتشرة عندهم لكن العتق كان مكرمة كفضيلة بين الناس.  كل هذه المعطيات المتعددة التي اشرنا إليها إن دلت على شيء فإنما تدل على أهمية تلك المرحلة والتي كانت تتميز بكونها مجتمعات حضرية متقدمة فكان من الضروري معرفتها لما لها من اثر في تصور المعطيات التي جاءت بها الرسالة الخاتمة والتي منها التقدم المادي الذي طغى على الجانب الأخلاقي ، فساد الظلم  وتجذر الصراع الطبقي وانتشر المأزق الروحي ، فكان من الطبيعي أن يأتي التدخل الإلهي عبر إرسال الأنبياء(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) لتصحيح مسيرة الناس وردهم إلى فطرتهم والإيمان بالله الذي يقتضي العدل والمساواة وفتح آفاق الإنسان لتصحيح التاريخ وتوجيهه نحو التي هي أقوم كما وجهته الرسالة الخاتمة لتحقيق مبدأين : الأولى وحدة المعبود والثانية وحدة الطبقية عما لها صلة بالتطور الحتمي للتاريخ . وأخيرا يبقى التاريخ مصدرا حضاريا وملهما أساسيا لمن يبتغي رؤية المستقبل رؤية بعيدة، فحاضر اليوم ليس إلا نتيجة ما فعل بالأمس، والغد ليس إلا نتيجة ما نفعله اليوم (ولن تجد لسنة الله تبديلا).

 



[1] خليل احمد خليل ، جدلية القران ،ص60

[2] دومينيك سوردديل ، الإسلام ، ص51 .

[3] محمد عزة دروزة ، عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ، بيروت ،ص44 – 49 .

[4] معروف الرصافي ، الرسالة المحمدية

[5] صالح احمد العلي ، تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية ، ص148 .

[6] محمد عزة دروزة ، نفس المصدر ، ص357

[7] محمد عزة دروزة ، نفس المصدر ، ص157 .

[8] خليل احمد خليل ، جدلية القران ، ص60 .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية