ما الروح؟ قراءة فلسفية في ضوء العلم الحديث وتفسير قوله تعالى: ) يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً

 

ما الروح؟ قراءة فلسفية في ضوء العلم الحديث وتفسير قوله تعالى:

) يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً (

بقلم عدنان الطائي

   منذ فجر التاريخ والإنسان يقف حائرًا أمام السؤال الأكبر: ما الروح؟ فالروح سرٌّ لا يُرى، ومع ذلك لا وجود للحياة من دونها، كما لا يتصور العقل جسدًا بلا روح ولا روحًا تعمل في غياب الجسد. وقد ظلّ هذا السؤال محور الفلسفات القديمة، وعقائد الأمم، وبذرة الأحلام الأولى بالخلود. وعندما سأل قوم النبي محمّد ﷺ عن حقيقة الروح، جاءهم الجواب الإلهي القاطع (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً (. هذه الآية لم تغلق باب العلم، بل حددت إطار المعرفة المتاحة حينذاك، وفتحت الباب أمام البشرية كلّها للتقدم والكشف، لأن عبارة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ليست حكماً بالجهل الأبدي، بل اعترافٌ بأن القليل سيتحول إلى كثير مع الزمن. وهذا ما حدث بالفعل مع تطور العلوم الطبيعية والفيزياء وعلم الأجنة والهندسة الوراثية وعلم التشريح العصبي. وقد ظهرت عبر قرون رؤيتان رئيسيتان عن الروح بين ما هو موروث ديني وبين بحث علمي:

1.  الرؤية الدينية التقليدية:
الروح نفخة من أمر الله، وهي سرّ الحياة، ولا يعلم حقيقتها إلا الخالق.

2.  الرؤية العلمية الحديثة:

تصف الحياة عبر الطاقة الحيوية، والكهربائية العصبية، والـ DNA، والجهاز العصبي المركزي، لكنها لا تتحدث عن “روح” بوصفها كيانًا مستقلًا، بل تدرس وظائف الوعي والإدراك.

    لم نجد تعارض بين الرؤيتين إذا ما فهمنا أن القرآن فرّق بين الروح والنفس: فالروح: أصل الحياة وأمرٌ غيبي. والنفس: هي الذاتُ المسؤولة التي تُحاسب يوم القيامة. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك(بينما لم ترد آية واحدة تقول: يا أيتها الروح ارجعي. وبنتيجة تطور العلوم فتح بابا لفهم أعمق للروح، حيث توسع العلم في القرنين الماضيين، ظهرت معطيات لم تكن معروفة للقدماء، من بينها:

.1 علم الأجنّة Embryology

الذي كشف كيف تبدأ الحياة من خلية صغيرة تتحرك فيها شرارة كهربائية دقيقة، كأنها “إشارة البدء” التي تحرك المادة الخام.

.2 علم الوراثة والجينات والـDNA

الذي أثبت أن الكائن الحي مخزون معلوماتي دقيق، وأن “شفرة الحياة” تعمل بأوامر كهربائية–كيميائية أشبه ببرنامج كوني.

 .3 علم الفسلجة العصبية Neurology

الذي كشف أن الدماغ هو مركز التفكير، والإرادة، والوعي، والإحساس.

.4 التجارب التي أثبتت أن انقطاع الإشارات العصبية يجعل العضو بلا حياة مما يشير إلى أن الحياة الجسدية قائمة على طاقة عصبية دقيقة.

   كل هذه النظريات العلمية لا تقول “ما الروح”، لكنها تقول لنا: إن ساحة عمل الروح في الجسد هي الدماغ والجهاز العصبي، وأن الحياة تعتمد على “قبسٍ من الطاقة” لا يزال غامضًا في أصله. وهذا يتوافق تمامًا مع قوله تعالى: {من أمر ربي} أي أنّ أصل الروح أمرٌ فوق قدرة البشر، ولكن آثارها تُقرأ في الجسد، كما تُقرأ آثار الريح في الأشجار.

هل الروح هي الطاقة الكهربائية الدماغية؟

لا يمكن للعلم أن يعلن أن الروح = كهرباء دماغية، فذلك تبسيط غير دقيق. لكن يمكن القول:

  • إن الوعي، والتفكير، والإرادة، والتذكر، والحركة كلها تظهر فقط عندما تعمل الخلايا العصبية في الدماغ.
  • وإن توقف الدماغ تمامًا يؤدي إلى غياب كل الأعمال التي نسبها البشر إلى “الروح”.

إذن:
   العلم يكشف كيف تعمل الحياة، لكنه لا يكشف ما هي الروح. وهذا ينسجم مع الآية:
(وما
أوتيتم من العلم إلا قليلاً(. فالإنسان عبر 1400 سنة توسّع علمه، لكن بقي سر الروح محجوبًا، وظهرت فقط آثارها من خلال العلوم الحديثة. الروح: غيبٌ يؤيده العلم ولا يلغيه القرآن لم يقل إن الروح مجهولة إلى الأبد، بل قال إنها “من أمر ربي”، أي أن أصلها غيبي، ولكن آثارها في الجسد مبذولة للبحث. وهذا ما فعلته علوم: التشريح الأجنة الوراثة- الفيزياء الحيوية -علم الأعصاب. وقد أصبحت هذه العلوم شاهدة على دقة النص القرآني، لا مناقضة له. فالروح ليست شيئًا مادياً، ولكن عملها يظهر في المادة. العقل ليس مادة، لكن تجليه في الخلايا العصبية. الإرادة ليست مادة، لكن أثرها يظهر في الحركة. وهكذا تبقى الروح سرًا إلهيًا تُدركه البصيرة ولا تحيط به التجارب.

خاتمة

   إن قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ليس إغلاقًا لباب المعرفة، بل إعلانٌ أن العلم البشري — مهما تطور — سيظل عاجزًا عن إدراك جوهر الروح، لكنه سيكشف آثارها ووظائف الجسد التي تعمل بها. واليوم، بعد علم الأجنة والوراثة والـ DNA والفيزياء الحيوية وعلوم الدماغ، أصبح الإنسان أقرب لفهم أين تعمل الروح، لكنه لا يزال بعيدًا جدًا عن معرفة ماهيتها. وبهذا يلتقي العلم مع النص القرآني في نقطة واحدة: جوهر الروح أمرٌ إلهي، ومعرفة البشر مهما اتسعت تبقى قليلة أمام سر الحياة.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية