بين الفن الإسلامي والفن الغربي: جدل الروح والمادة وامتداد الحضارة العربية

 

بين الفن الإسلامي والفن الغربي: جدل الروح والمادة وامتداد الحضارة العربية

بقلم: عدنان مهدي الطائي

    في كل العصور التاريخية، ومنذ أن خطّ الإنسان على جدران الكهوف أول رموزه، كانت الرغبة في الإبداع والتعبير عن الذات وراء إنجاز الأعمال الفنية. وتنوّعت هذه الأعمال بين التمائم الصغيرة، والمصنوعات اليومية، والنقوش والزخارف، والمباني المزيّنة بالخطوط والألوان، وكلها كانت تعبيرًا عن نزعة الإنسان الفطرية نحو الجمال والخلود.  غير أن الفن الإسلامي والفن الغربي سلكا طريقين مختلفين في الرؤية والغاية. فالفن الغربي، منذ الإغريق والرومان حتى عصر النهضة، يقوم على مركزية الإنسانالجسد والعقل والعاطفة—ويهدف إلى محاكاة الواقع وتمجيد المادة. أما الفن الإسلامي، فقد أنبنى على مركزية الله، فغايته ليست تمثيل الكائنات، بل تجريدها، ليعبّر عن روح الوجود لا عن صورته. فالجمال في الفن الإسلامي تسبيحٌ ناطق، ووسيلة للسموّ الروحي لا للزهوّ الدنيوي. ومن هنا جاء اهتمام الفنان المسلم بالزخرفة الهندسية والنقوش النباتية والخط العربي، بدلًا من التماثيل والوجوه البشرية. لم يكن هذا نابعًا من تحريمٍ مطلق للتصوير، بل من فلسفة جمالية ترى أن الفن لا يحقّق ذاته في محاكاة الخلق، بل في تأمل الخالق، تطهيرًا للجمال من الوثنية، وإعلاءً للرمز على الصورة، وللمعنى على الشكل.

الحضارة العربية أم الحضارة الإسلامية؟

    كثيرًا ما يُقال: ليس هناك حضارة عربية، بل حضارة إسلامية، هي خليط من حضارات شعوب دخلت الإسلام بعد الدعوة المحمدية. وهذا القول يحمل شيئًا من الصواب، لكنه لا يُعبّر عن الحقيقة الكاملة. إن الحضارة التي نهضت في ظل الإسلام لم تكن عربيةً خالصة، لكنها انبثقت من قلب العروبة. فالإسلام وُلد في بيئة عربية، بلغتها نزل القرآن، ومن قيمها انطلقت مبادئه الأولى. ومن هذه البيئة انطلقت الشرارة الفكرية التي احتضنتها الأمم الأخرى بعد دخولها الإسلام، فشارك الفرس والترك والبربر والمصريون والسريان والهنود في إثرائها حتى أصبحت حضارة إنسانية جامعة. لذلك يمكن القول إن العروبة كانت الجذر، والإسلام كان الساق، والإنسانية كانت الثمر. أما إنكار وجود حضارة عربية، فهو إغفالٌ للبعد التاريخي للعرب قبل الإسلام وبعده. فالعرب عرفوا ممالك مزدهرة، مثل سبأ وتدمر وحِمْيَر والحيرة والأنباط، وكانت لهم لغة وآداب وقيم شكلت اللبنة الأولى للكرامة والفروسية والحكمة. هذه القيم تحوّلت، مع الإسلام، إلى منهج حضاري متكامل جمع بين الإيمان والعقل، وبين اللغة والروح، وبين القيم والعلوم. لقد وضع العرب الأساس اللغوي والفكري للحضارة الإسلامية، وصاغوا بها الفلسفة والطب والرياضيات والفلك، ثم انفتحوا على حضارات الأمم الأخرى فصنعوا منها وحدة حضارية مبدعة لا مثيل لها. إنها حضارة تتكلم بالعربية، وتفكر بالإسلام، وتبدع بالإنسان. دلالات هذا التكوين الحضاري

1.  اللغة العربية كانت أداة الوحدة الفكرية والعلمية، فغدت لغة الفلسفة والعلم والإبداع.

2.  المنهج الإسلامي أعطى الحضارة بُعدها الأخلاقي والروحي، فميّزها عن الحضارات المادية البحتة.

3.  التعدد الثقافي أضفى عليها مرونةً وثراءً إنسانيًا، فاستوعبت الآخر دون أن تفقد ذاتها.

4.  الانفتاح الحضاري جعلها مؤثرة ومتأثرة؛ فهي التي زرعت بذور النهضة الأوروبية، ثم تلقت منها لاحقًا تأثيرات علمية وفنية أسهمت في تجديد وعيها.

الفن مرآة للحضارة

    من هذا المنظور، يصبح الفن الإسلامي التجسيد الجمالي للحضارة العربية الإسلامية، لأنه يعبّر عن رؤيتها التوحيدية للعالم، حيث الجمال طريق إلى الله لا إلى الذات. أما الفن الغربي، بتركيزه على الإنسان والمادة، فيمثل رؤية علمانية ترى في الجمال سبيلًا إلى المعرفة والتملك. وبين هذين الاتجاهين يبقى الإنسان في جوهره الباحث الدائم عن المعنى، الذي لا يكتمل إلا حين تتصالح الروح مع المادة، والإيمان مع العقل، والعروبة مع الإنسانية. 

خاتمة

    الحضارة العربية لم تكن غائبة يومًا، بل امتدت عبر الإسلام، فغدت عربية الجذر، إسلامية الروح، إنسانية الأفق. وهي ليست صفحة مطوية من الماضي، بل مشروع حيّ في الذاكرة الإنسانية، ينتظر من يستعيده بالفكر والفن والوعي، ليعيد للعالم معنى الجمال ومعنى الإنسان.

عن الكاتب: عدنان مهدي الطائي — كاتب ومفكر عربي، يزاوج في رؤيته بين الأصالة والتجديد، ويؤمن بأن الإبداع الحقيقي هو الذي يوحّد بين الروح والعقل، وبين الشرق والغرب، في مسيرة إنسانية واحدة نحو الحقيقة والجمال.س

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية