هل انتهت الحضارة الإسلامية أم تحوّلت؟

 

هل انتهت الحضارة الإسلامية أم تحوّلت؟

بقلم: عدنان مهدي الطائي

   في خضمّ الجدل الدائر حول الحضارات القديمة، يخرج صوتٌ على وسائل التواصل ليقول: إن ما بين أيدينا اليوم ليس امتدادًا للحضارات التي وُلدت في العصور الوسطى، بل هو قشرة مطواعة يصنعها المتصدّون للسلطة أو الثقافة، بعدما أُغلقت منابعها الأصيلة وانقطع نسلها الفكري. قد يبدو هذا القول جذّابًا، لكنه يغفل جوهر مفهوم الحضارة. فالحضارة ليست جدارًا يُغلق أو بابًا يُفتح، بل تجربة إنسانية متواصلة تتبدّل فيها الأدوات، ويختلف فيها القائمون على حملها، لكنها تحتفظ بروحها ما دام الإنسان قادرًا على السؤال والإبداع.

الحضارة الإسلامية، شأنها شأن الصينية أو اليابانية، لم تنطفئ في لحظة، بل تعرّضت لتحولات بنيوية. فقد أُضعفت اقتصاديًا حين تهاوت طرق التجارة، وسياسيًا حين تفتّتت الدولة الجامعة، وثقافيًا حين أصبح الدين أداة في يد السلطة لا منبعًا للحكمة. لكنها، مع ذلك، لم تُمحَ من الوعي الإنساني؛ لأنّ علومها وفلسفتها وقيمها الأخلاقية عبرت إلى العالم الغربي ذاته الذي يُقال إنه حلّ محلّها. فالغرب لم يولد من فراغ، بل تغذّى على تراث الشرق، ثم أعاد تشكيله ضمن منظومته الجديدة كما أشار اليها الفيلسوف هيغل من ان الحضارات بدأت من الشرق وانتهت الى الغرب.

   أما القول بأنّ الحضارة الإسلامية اليوم “مطواعيه” للمتصديين، فهو تشخيص للواقع السياسي والثقافي الراهن أكثر من كونه حكمًا حضاريًا. نعم، هناك مؤسساتٌ تتزيّن باسم التراث وهي في جوهرها تابعة لمنظومات غربية أو سلطوية، ولكنّ هذا لا يعني موت الحضارة، بل تحريف اتجاهها مؤقتًا. فالماء الذي يُحبس في سدٍّ لا يموت، بل يبحث عن منفذٍ آخر ليواصل الجريان. فالحضارات الكبرى لا تموت، بل تتحوّل من مركز إلى آخر. فكما انتقلت الفلسفة من أثينا إلى بغداد، ثم إلى الأندلس، ثم إلى باريس، قد تكون اليوم في طور عودةٍ جديدة من الشرق إلى الغرب كما كان سابقا، في هيئة فكرٍ نقدي، وروحٍ أخلاقية تفتقدها الحداثة المادية.

مقارنة في التحوّل: الإسلام والشرق الأقصى

حين نُمعن النظر في مسار الحضارة الإسلامية والشرقية، نرى تشابهًا في دورة الحياة الفكرية. فالصين واليابان، مثلاً، لم "تنتهيا" حين اجتاحتهما موجة الحداثة الغربية، بل استوعبتاها وأعادتا تشكيلها ضمن منظومة فكرية محلية. اليابان في عصر ميجي لم تنكر جذورها البوذية والكونفوشية، بل جعلت منها قاعدة أخلاقية لتبنّي التكنولوجيا الغربية. والصين الحديثة أعادت إنتاج تراثها في ثوبٍ جديد يجمع بين المادية التاريخية وروح الشرق القديمة. وكذلك الإسلام، حين يتحرّر من أسر التوظيف السياسي ومن سجن الشكليات، فإنه قادر على أن يُعيد إنتاج ذاته بوسائل عصرية دون أن يفقد جوهره الإنساني.
فالتحوّل ليس انقطاعًا، بل عبورٌ حضاريّ من شكلٍ إلى آخر، من الذاكرة إلى الفعل، ومن الماضي إلى المستقبل.

خاتمة

   إنّ السؤال الحقيقي ليس: هل انتهت الحضارة الإسلامية؟ بل: هل لا يزال الإنسان المسلم قادرًا على إحياء روحها في فكره وسلوكه؟ فما دامت هناك عقول حرة وضمائر تسعى إلى العدل والجمال، فإنّ الحضارة لم تُغلق، وإنما تنتظر من يفتح نوافذها من جديد.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية