الإصرار… حين يكون الضوء مرآةً للظلال
الإصرار، تلك القوة الغامضة التي تشتعل في
أعماق الإنسان عندما يوشك على الانطفاء، هو إحدى أكثر طاقات الوجود إبهارًا
وغموضًا. فبه شُيّدت الحضارات، وتجاوز الإنسان حدود ضعفه، وحوّل المستحيل إلى
واقع. إنه النبض الذي يجعلنا نواصل السير حين يخذلنا الطريق، ويُوقظ فينا معنى
الحياة حين تبهت الألوان. غير أنّ الإصرار، مثل النار، يُنير حين يُستخدم
بحكمة، ويحرق حين يُطلق بلا وعي. ففي وجهه المشرق، هو الإيمان العميق بأن كل سقوط
ليس نهاية، بل بداية أخرى. إنه سرّ النجاح في العلم، والفن، والفكر، ومحرّك كل من
تحدّى مصيره فخلق لنفسه دربًا من نور. لكنّ الوجه
الآخر لهذا الإصرار، حين ينفلت من ضوابط العقل والبصيرة، يتحوّل إلى عنادٍ مدمّر،
وإلى إيمانٍ أعمى يبرّر لنفسه كل شيء باسم “الحقّ”. هنا يخرج الإصرار من مملكة
الإرادة إلى مملكة الغلوّ، ويغدو أداةً للهدم بدل البناء. ولعلّ أبشع صور هذا الانحراف ما نراه في التطرّف الديني، حيث يُصرّ
بعضهم على تفسيرٍ جامدٍ للنصوص، يرفض العقل والرحمة معًا، حتى يتحوّل إصرارهم إلى
سيفٍ يُذبح به الإنسان باسم الله. هكذا وُلدت التنظيمات الظلامية كـ داعش، من رحم
الإصرار الأعمى، حين تلبّس الغرور ثوب الإيمان، وادّعى الجهل أنه يحتكر الحقيقة
المطلقة. إنّها صورة الإصرار حين يفقد البصيرة فيغدو لعنةً بدل أن يكون خلاصًا.
فالإصرار الحقيقي لا
يعني أن نمضي رغم كل شيء، بل أن نمضي نحو ما يستحقّ أن نُصرّ عليه. هو
إدراكٌ متوازنٌ بين الحلم والواقع، بين الإيمان والعقل، بين القداسة والإنسانية. أما الإصرار الأعمى، فهو غلقٌ لباب الحوار، وتجميدٌ للروح في لحظةٍ
ظنّت نفسها خالدة. إنّ أجمل ما في الإصرار أنه مرآةٌ تكشف جوهرنا:
فإن كان فينا نورُ الحكمة أضاء طريقنا، وإن كان فينا ظلامُ الغرور أوردنا موارد
الهلاك. وبين النور والظلال، يظلّ الإنسان هو من يختار أيّ طريقٍ يجعل من إصراره
طريقًا إلى الحياة… أو إلى الفناء.
الإصرار الواعي… رسالة
الإنسان إلى الحياة
إنّ الإصرار الواعي هو مدرسة الأخلاق الكبرى،
إذ لا يقوم على الغرور، بل على الرحمة والإدراك. فالإصرار الحقيقي لا
يُقصي الآخر، بل يسعى لفهمه، ولا يرفع راية النصر فوق الركام، بل يبني الجسور فوق
الجراح. هو إصرارٌ على الخير لا على التسلّط، وعلى الإصلاح لا على الانتقام، وعلى
الحياة لا على الفناء. وحين يبلغ الإنسان هذا المستوى من الوعي، يصبح
إصراره دعوةً إلى التعايش، وإيمانه بالحقيقة نافذةً للحوار لا سجنًا للعقول. فبهذا
الإصرار وحده، يمكن للبشرية أن تنجو من تطرفها، وأن تتقدم بخطى ثابتة نحو عالمٍ
أكثر عدلًا وإنسانية.
بقلم: الأستاذ عدنان الطائي
كاتب وباحث في الفكر الإنساني والفلسفة الحديثة
تعليقات
إرسال تعليق