ظلال الإنسان – ثلاثية الحنين والوطن والحلم وبلاغة الظل (حين تناديك الكلمات... فلا تجد فيها روحًا)

 

ظلال الإنسان – ثلاثية الحنين والوطن والحلم

وبلاغة الظل (حين تناديك الكلمات... فلا تجد فيها روحًا)

بقلم عدنان الطائي

إهداء

إلى كلّ روحٍ حملت في قلبها ظلًّا لا يغيب...
إلى من عبروا حياتنا وتركوا خلفهم أثرَ ضوءٍ لا يُنسى،
إلى الوطن الذي يسكن فينا وإن غبنا عنه،
وإلى الحلم الذي لا يموت مهما طال ليله.

أهدي هذه الظلال إلى الإنسان في كلّ مكان،
ذلك الكائن الذي يبحث في عتمته عن بصيصِ نور،
وفي غربته عن صوته الأول،
وفي قلبه عن ظلّه الحقيقي.

تمهيد

   في هذا السرد، تتجسّد الظلال لا كامتدادٍ للجسد، بل كامتدادٍ للروح، تلك التي لا تفارق الإنسان في رحلته بين الحنين والوطن والحلم. هي مرايا باهتة تُضيء حين يبهت النور، وتبوح حين يصمت القلب. غاية هذا النص ليست في وصف الظلّ، بل في الإصغاء إليه،
إلى ذلك الصوت الخافت الذي يسكن أعماقنا، ويرافقنا كلّما افترقنا عن أنفسنا. فكلّ ظلّ هنا هو وجهٌ آخر للإنسان، وصدى لحكايةٍ تُروى بين الغياب والرجاء.

1- ظلّ الحنين

   يَمشي الحنين خلفنا كظلٍّ لا يزول، يتبعنا في الطرقات، في الغياب، في عتمة الأحلام.
كلّما حاولنا أن نخطو بعيدًا عنه، امتدّ منّا نحوه خيطُ ضوءٍ خفيّ، كأنّ أرواحنا لا تعرف تمامًا معنى الانفصال. الظلّ لا يشيخ، ولا يتعب، هو نسخة القلب حين يفقد دفءَ الذين أحبّهم، هو ذاكرةٌ تمشي على أطراف الضوء، تخاف أن تنكشف، لكنها لا تستطيع أن تختفي. يبقى الظلّ شاهدًا على ما كنّا عليه، على الأمان الذي ضاع، وعلى الحنين الذي لا يموت، كأنّنا جميعًا ظلالٌ تبحث عن أجسادها القديمة.

2- ظلّ الوطن

   كلّما أشرقت شمس الغربة، تمدد ظلّ الوطن في قلبي طويلاً، يلاحقني كطيفٍ من ترابٍ ودعاء، يهمس لي بأسماء الشوارع والبيوت التي تركت مفاتيحها معلّقة على حافة الذاكرة. ليس الوطن مكانًا فقط، بل ظلّ روحٍ نحمله حيث نرحل، يختبئ في رائحة الخبز،
وفي نغمة أذانٍ بعيدٍ يأتي من جهة القلب. في المنافي، يكبر ظلّه أكثر، يستظلّ به الحنين حين تشتدّ العزلة، ويستيقظ فينا كطفلٍ ضائعٍ يسأل: متى نعود؟

3- ظلّ الحلم

    يمشي الحلم أمامنا، كضوءٍ لا يُطال، نمدّ أيدينا نحوه فنمسك بالظلّ فقط، كأنّ الأماني لا تترك أثرًا إلا في القلوب. نحيا على وهم الوصول، ونتفيّأ ظلال الرجاء كلّما أحرقتنا خيبات الواقع، فالحلم هو ما يُبقي فينا إنسانًا، وما يجعل الخطوة القادمة ممكنة رغم العثرات. وحين نفيق من النوم، نكتشف أنّ الحلم لم يمت، بل عاد إلى ظلاله الأولى، ينتظر ليلًا آخر ليحيا من جديد.

بصمة ختامية

هكذا يعيش الإنسان بين ظلاله الثلاثة؛ ظلّ الحنين الذي يذكّره بما كان وظل الوطن الذي يمنحه معنى البقاء وظل الحلم الذي يفتح له باب الغد. فالإنسان، في جوهره، ليس سوى ظلٍّ يبحث عن ضوئه الضائع.

   ومن هنا تبرز بلاغة الظل (حين تناديك الكلمات... فلا تجد فيها روحًا) تجدها في زمنٍ تفيض فيه الشاشات بالبلاغة المصنوعة، والقصص المزخرفة التي تُخفي وراءها خواءً وجدانيًا أو رغبة في التلاعب بالعاطفة، تبرز الحاجة إلى نصوصٍ أدبيةٍ مضادة... نصوص تُعيد للغة وظيفتها النبيلة: أن تفتح الأعين لا أن تُسكرها، أن تضيء العقول لا أن تضللها. "بلاغة الظل" هو محاولة رمزية لفضح ما قد يبدو براقًا لكنه زائف، وما يُصاغ بمهارة لغوية، لكنه يخلو من الهدف أو القيمة. هو دعوة إلى التمييز بين الجمال الحقيقي والجمال المخادع، بين الأدب الهادف وبين ترف الحكاية التي لا تثمر سوى التوهان. وأقول ببلاغة الظل:

جاءته الرسالة كأنها طيفٌ مكتوب بالحبر الفصيح.
امرأةٌ لا صورة لها، لا وجه، لا أثر،
فقط كلمات تلمعُ كأنها مرآة، لكنها لا تعكس شيئًا.

قال لنفسه:
"
ما أشبهها بأولئك الذين يتزينون ببلاغة مستعارة...
يكتبون لا ليقولوا شيئًا، بل ليقال إنهم كتبوا."

في الرسالةِ ذكرى لرجلٍ كان يقرأ،
لكن لا أحد يعرف ماذا كان يكتب.
كأن الحياة كلها سطرٌ يُمحى قبل أن يُحفظ،
كأن المعنى وُلد من أجل الحذف، لا الخلود.

ثم تسرد الرسالة حكايات عن كتبٍ مخفية،
ورغبات مؤجلة،
وخطوطٍ حمراء تحت جمل فاسدة في رواياتٍ مبتذلة،
تُفسَّر على أنها شيفرات سرية لحالة الرجل الغامض.
كأنها دعوة للبحث عن المعنى... في الزيف!

لكن شيئًا ما في النص لا يُطمئن.
العبارات مصقولة،
لكن القلب غائب.
اللغة راقية،
لكنها تقودك نحو هوّة لا تُفضي إلى وعي،
بل إلى فضولٍ فارغ.

قال لنفسه وهو يغلق الرسالة:
"
ثمة فرق بين من يكتب ليضيء الظلمة،
ومن يكتب كي يضلّل النور."

ثم كتب في دفتره:
"
البلاغةُ التي لا تخدمُ الحقيقة،
تصير سحرًا رخيصًا في يد مهرّج يلبس قناع فيلسوف."

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية