الحلم الذي لم يرحل قصة قصيرة

 

الحلم الذي لم يرحل

قصة قصيرة

بقلم: عدنان الطائي

لكي يبقى الحب، كعادته، في أي قصيدة...

تتطلّع عيناك بشوقٍ لليوم القادم،

وأنا، المسيَّج بالحنين،

أرابط على ضفاف الغربة،

أحتضن حظّي المسجّى في قبوٍ مرطّبٍ حالك السواد،

هاربًا من الأزمنة،

والموتُ حيٌّ يتنفّس قرب الوسادة.

كنتُ نائمًا،

والكتاب مفتوح،

حين داهمني ضيقٌ خانقٌ يمتدّ عبر الأثير،

في محاولةٍ — ربما لم تكن مجدية —

لقراءة ما يُضمره المجهول.

شدّ انتباهي شيءٌ ما...

شعرتُ بغبطةٍ،

ارتسمت ابتسامةٌ على شفتي،

وأشرق وجهي مستأنسًا برؤيتها...

لكنها اختفت،

كأنما خُطفت منّي.

حُلْمٌ ضائع.

الليلة لم تكن ككلّ ليلة،

تسلّلت رغبةٌ غريبة إلى قلبي،

كأنّ شيئًا ما ينتظرني.

جلستُ قرب الكتاب المفتوح،

وأمعنتُ النظر في سطورٍ لن تتغيّر،

رائحةٌ قديمةٌ تلوح من الورق،

ووجهٌ مألوفٌ يطلّ من هوامش الحروف.

أغمضتُ عيني لحظة،

وإذا بها أمامي…

لم تتغيّر.

ابتسامتها ذاتها،

تلك التي كانت تهزم حزني كالمطر،

وعيناها تحملان خريفًا ناعمًا

يشبه لحظاتنا الأخيرة.

لم تقل شيئًا…

لكنّ حضورها قال كلّ شيء.

شعرتُ بدفءٍ يملأ هذا القبو المبلّل بالعزلة.

امتدّت يدي نحوها،

لكنّها تراجعت،

لا خوفًا،

بل كأنّها تعرف…

تعرف أنّني لم أعد ذلك الذي كانت تعرفه،

ولا هي التي كنتُ أنتظرها تمامًا.

حين التقينا،

لم يكن بيننا سوى مقعدٍ خشبي،

وبعض دفاتر،

وأحاديث لا تبحث عن نهاية.

في الجامعة كان لقاؤنا،

وفي صمت العيون همسنا.

كانت تقرأني كما يقرأ العارف

أثرَ الريحِ على العُشب،

وكنتُ أكتبها في قلبي،

لا أملك ورقًا ولا حبرًا…

فقط نبضي، وأملي الهشّ.

كنّا نتهامس دون صوت،

تلتقي العينان وتتهرّبان سريعًا،

كأنّ شيئًا مقدّسًا يحدث

لا يحتمل نظرةً طويلة.

كنتُ طالبًا بلا مال،

وأحمل همًّا بلا أمل،

ورغم ذلك... كانت تنتظرني بصبرٍ،

إلى أن جاءها القدرُ

في صورةِ رجلٍ آخر،

لم يسألها عن الشعر ولا الحنين،

بل جاء بأوراقه كاملة،

وبأملٍ لا ينضب.

منذ ذلك اليوم،

بقيتُ أعيش على ضفافها.

لا هي عادت،

ولا أنا استطعتُ أن أرحل.

أغمض عيني فأراها…

ككتابٍ مفتوحٍ بثوبها الجامعي،

وجهُها لا يشيخ في مخيّلتي،

وصوتُها ما زال رنينُه

حين أخلدُ للنوم،

كأنّها تهمس لي:

أنت لم تتأخّر… لكنني رحلتُ مبكرًا.

لا أدري أين حطّت رحالها،

ولا من صار رفيقَ ليلها،

لكنني أعلم أنّها كانت،

وأنها لا تزال تسكنني

كأنّني وطنُها الوحيد.

تجاوزتُ السنين،

وما زال الحلمُ من بقاياها…

لا يزال يضيء لي الطريقَ في العتمة.

لم أنسَ،

ولم أغفر للقدر،

لكنّه لم يقتلني…

بل جعلني حيًّا بها،

أكتب عنها،

وأرسمها على جدران القبو،

لا أحد يراها،

وأتمتم في سرّي:

أنا ما زلتُ هنا...

إن بقيتِ هناك،

في أيّ مكانٍ على هذه الأرض،

فاعلمي أنّ قلبي

ما زال مشبَعًا بحبٍّ لا يموت،

وحنينٍ... لا يخون.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية