أثر لا يزول قصة قصيرة.. مرثية وجودية

 

 

 أثر لا يزول  

قصة قصيرة.. مرثية وجودية

بقلم: عدنان الطائي

في صمتِ دارِ المسنّين،
حيث تتقاطعُ الذكرياتُ مع ضوءِ الشمسِ المتسلّلِ من النوافذِ العالية،
يجلسُ رجلٌ تجاوزَ الثمانين،
يحملُ بين ضلوعِه قلبًا مثقلاً بالغربةِ والألم،
لكنّه عامرٌ بالحكمةِ والكلماتِ التي نقشتها الأيامُ في ذاكرته.

لم يكن مجرّدَ عابرٍ في الحياة،
بل كان كاتبًا وشاعرًا...
يُمسك القلمَ كما يُمسك عاشقٌ وردتَه الأخيرة،
يُسافر عبر الكلمات إلى أعماق الفلسفة،
ويُعيد قراءة التاريخ والنصوص الدينية بحثًا عن معنى الإنسان.

لكن الذاكرة خانته،
تآكلت أطرافها كما تتآكل أطراف الورق العتيق.
وبات عاجزًا عن الإمساك بتلك الأدوات التي شكّلت هويته.
ثلاثة أبناءٍ له،
لكن المسافةَ بينهم ليست كيلومتراتٍ فقط،
بل سنواتٌ من الجفاء والخذلان.
واحدٌ فقط يزورُه في الأسبوع،
يمرُّ سريعًا كزائرٍ في متحفٍ قديم،
يلقي التحيةَ ويمضي،
تاركًا وراءه قلبًا يرتجفُ من الوحدة.
لم يكن يحتاجُ مالًا ولا رعاية،

بل فقط أن يشعر بأنه لم يُنسَ،
بأنه ما زالَ يعيشُ في قلوبِ من أحبَّهم.

أما زوجتُه، رفيقةُ العمر،
فقد سكنَت معه الدارَ ذاتها،
لكنها لم تعد تدركه كما كانت.
خذلانُ الأبناءِ أطفأَ بريقَ عينيها،
وأغرقَها في صمتٍ طويلٍ
كأنها تُحدّث الله بصوتٍ لا يُسمع.

كان ينظرُ إليها على كرسيها المتحرك،
فتبدو كظلٍّ من امرأةٍ كانت يومًا شعلةَ حياةٍ.
قلبُها الذي انتظرَ أبناءَهُ طويلاً،
تعبَ من الخفقان.
لم يكن من الذين يشكون أو يستسلمون،
بل من أولئك الذين يقفون على حافةِ الهاوية
ويُحاولون فهمَ صمتِ القدر.
آمنَ أن الكتابةَ مقاومة،
وأن الكلمةَ أثرٌ لا يزول.

لذلك، حين شعرَ أن النهايةَ تقترب،
لم يطلب إلا شيئًا واحدًا:
أن تُكتَب قصته...
بلا زينةٍ ولا مجاملة،
ليظلَّ صوته حيًّا في ذاكرة الزمن.
السرطانُ حاصرَ جسده،
لكن الألم الحقيقي كان غيابَ الدفءِ الإنساني،
ذلك الشعور بأنك أصبحتَ هامشًا
في حياةِ من كنتَ يومًا مركزَها.
كتب في آخر يومٍ جملةً واحدة:

"ليس الوداعُ ما يؤلم،
بل الذكرى التي لا تجدُ صدى
في قلوبِ من أحببتهم."

ثم أسند رأسه إلى النافذة،
مستسلِمًا لذلك الضوءِ الهادئ...
كأنها المصالحةُ الأخيرةُ مع الحياة.
لكن الحياةَ لم تطوِ صفحتَه بعد،
ففي أعماق ذاكرته المتعبة
كانت بقايا وعيٍ تقاوم النسيان،
تستعيدُ أبياتًا، أسماءَ كتبٍ،
ورائحةَ وطنٍ لم يغادره قط.
الوطنُ لم يكن مكانًا،
بل كان شعورًا يسكنه،
ينبضُ في دمه حتى اللحظة الأخيرة.
وفي ليلةٍ هادئةٍ،
شعرَ بشيءٍ مختلفٍ...
سلامٌ داخليٌّ، كأنَّ العمرَ كلَّهُ
انتهى عند نقطةِ صفاءٍ.
أغلقَ عينيه،
لم يُودّع الحياةَ،
بل احتضنها للمرة الأخيرة.
وهكذا، ظلَّ أثرُهُ حيًّا،
مكتوبًا بحبرِ الألم وحروفِ الحكمة،
يُضيءُ دروبَ من جاؤوا بعده.

 لأن الأثر لا يزول...

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية