على ضفاف ألم محمد شكري: حين يدفع المبدع ثمن الكلمة مرتين

 

على ضفاف ألم محمد شكري: حين يدفع المبدع ثمن الكلمة مرتين

بقلم عدنان الطائي

   من يتأمل تاريخنا العربي المعاصر يجد أن السلطة لم تخض معركة حقيقية ضد الفقر أو الجهل أو التبعية، بل خاضت معركة طويلة ضد الكلمة الحرّة. وما جرى مع رواية الخبز الحافي للراحل محمد شكري، إلا شاهد على أن الحاكم العربي يرتجف أمام نص أدبي أكثر مما يرتجف أمام جريمة أو أزمة اجتماعية.

    محمد شكري لم يكتب رواية للتسلية أو للترف الفكري، بل دوّن سيرة الفقراء والمهمَّشين في المغرب، أولئك الذين عاشوا على هامش المدن، بين الجوع والحرمان والجهل. كان صوته صوت جيل كامل سُحق تحت وطأة البؤس، ومع ذلك لم يغفر له الحكام جرأته، فحوصرت كتبه، ومُنع الخبز الحافي في المغرب وعدة بلدان عربية، بينما تُرجم مبكراً إلى الإنجليزية والفرنسية وحظي باحتفاء عالمي.

    لكن المفارقة أن شهرة محمد شكري لم تحمِه من الفقر أو من التهميش، إذ عاش معدماً، محرومًا من عوائد كتبه الممنوعة، فيما كان الآخرون – من دور نشر وتجار كتب – يستفيدون من شهرته دون أن يعود ذلك بالنفع عليه أو على عائلته. إنها صورة مصغّرة عن واقع قاسٍ يعيشه كثير من أدباء العرب، حيث يكتبون بدم قلوبهم ولا يحصدون سوى التجاهل أو المضايقات أو المنع.

    في مصر وسوريا والعراق والمغرب وغيرها من البلدان العربية، امتلأت السجون والمنافي بالمفكرين والأدباء الذين لم يفعلوا أكثر من رفع صوتهم في وجه الاستبداد. وبدل أن تنشغل الحكومات بمحاربة الفقر والبطالة والجهل، وجّهت طاقتها لمصادرة الكتب وتكميم الأفواه، ظنًّا منها أن الكلمة تُهزم بالقمع، متناسية أن المنع لا يزيدها إلا قوة وانتشارًا.

   إن ما جرى مع محمد شكري ليس سوى نموذج واحد لظاهرة أوسع: فالأديب العربي كثيرًا ما يُعاقب مرتين؛ مرة في حياته بالمنع والمطاردة والفقر، ومرة بعد رحيله حين يُستغل إرثه الأدبي مادياً دون أن تنال عائلته أو اسمه شيئًا من هذا الاعتبار. وهنا تتجلى المأساة بكل وجعها: أن يموت المبدع منسياً، معدماً، مطارداً من وطنه، بينما تُباع كتبه في الأسواق وتُدرَّس في الجامعات، ويجني ثمارها الآخرون. أن يُحرم من أبسط حقوقه في الحياة الكريمة، ثم يُحرم بعد موته من الوفاء لذكراه.

    رحل محمد شكري كما رحل كثير من أدباء العرب، محاطين بالعوز والنكران، لكن كلماتهم بقيت شاهدة على أن الظلم لا يطمس الحقيقة، وأن الكلمة الحرة، مهما حوربت، تظل نبضاً خالداً يذكّر الأجيال بأن المبدع عاش من أجلهم، ومات من أجل أن تبقى أصوات الفقراء والمهمَّشين حيّة لا تموت.

الخاتمة

ليس غريبًا أن تُمنع رواية وتُحاصر كلمة في عالم عربي اعتاد أن يقيم السجون للأقلام أكثر مما يقيم المصانع للفقراء. لكن الغريب أن يموت مبدع مثل محمد شكري جائعًا، بينما تُباع كتبه في أسواق العالم بأغلى الأثمان. هنا، على ضفاف ألمه، نكتشف مفارقة الوجود العربي: أن يدفع الأديب ثمن الكلمة مرتين؛ مرة في حياته حين يُطارَد ويُهمَّش، ومرة بعد مماته حين يُستغل صوته دون أن يُكرَّم أثره.

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية