من فصل الدين عن الدولة إلى فصل الدين عن الثقافة.. دين بلا ذاكرة.. حين يفقد الإيمان صوته الثقافي

 

من فصل الدين عن الدولة إلى فصل الدين عن الثقافة..

دين بلا ذاكرة.. حين يفقد الإيمان صوته الثقافي

بقلم: عدنان مهدي الطائي

المقدمة

   يرى المفكر الفرنسي أوليفييه روا أنّ ما يُسمّى بـ «أزمة الدين» أو صعود الحركات الدينية المتشددة لا يمكن تفسيره ببساطة على أنه صراع حضارات أو اصطدام بين الشرق والغرب، كما يقترح ذلك صمويل هنتنغتون في نظريته المعروفة (صدام الحضارات). بل إن جذور هذه الأزمة تكمن في انفصال الدين عن الثقافة، أي أن الدين اليوم يتقدّم في سياق منفصل عن الأطر التاريخية والثقافية التي نشأ فيها. هنا يظهر مفهوم (الجهل المقدّس (، الذي يصف ظاهرة دينية حديثة قائمة على طقوس أو شعائر معزولة عن تراث ثقافي عميق. الجهل هنا لا يعني غياب المعرفة العلمية، بل تجاهل الأبعاد الثقافية والتاريخية للدين؛ أي أنّ الدين يُمارَس خارج سياق الثقافة الكبرى التي كانت تمنحه المعنى، فيصبح طقسًا أو شعيرة مباشرة وسهلة الفهم، معزولة عن جذورها الفلسفية والروحية. أما «المقدّس» في هذا المفهوم، فيشير إلى القداسة التي تمنحها جماعة أو حركة دينية لهذه الممارسات المعزولة، دون الرجوع إلى خلفية ثقافية تجعل الدين قابلاً للفهم والعيش بشكل متوازن ضمن مجتمع معيّن. وبهذا، يتضح أن التدين الحديث، وفق روا، أصبح مرتهنًا لفهم فقه رجال الدين والأساطير التي دخلت على الدين وشوّهت قيمه، بعيدًا عن جوهره الإنساني والثقافي. وتستند هذه المقالة إلى هذا الإطار التحليلي، لتبحث في ظاهرة الدين بلا ذاكرة ثقافية، وكيف يتحوّل إلى هوية رمزية أو شعار، بدل أن يكون تجربة إنسانية حية، تجمع بين الإيمان والفكر والجمال.

 الدين بعد العولمة

في زمنٍ صار الإيمان فيه شعارًا، والدين لافتةً تُرفع لا روحًا تُعاش، تولد ظاهرة أخطر من فصل الدين عن الدولة… إنها فصل الدين عن الثقافة. حين ينفصل الدين عن ذاكرته، يفقد صوته الداخلي، ويغدو جسدًا بلا ملامح. العولمة لم تقتل الأديان، بل نزعت عنها لغتها، فصارت الأديان تُتداول كمنتجات رمزية، وتُمارَس في عزلةٍ عن الفكر والإبداع. الدين الذي يفقد جذره الثقافي يفقد قدرته على الإنصات للإنسان، فيتحول من تجربةٍ روحية إلى شعارٍ سياسي أو صوتٍ غاضب.

الفرق بين الفصلين

  • فصل الدين عن الدولة: يُبعد الدين عن السلطة السياسية، لكنه يبقى حيًّا في وجدان الناس وثقافتهم.
  • فصل الدين عن الثقافة: يُبعد الدين عن الإنسان نفسه — عن لغته وشِعره وفنّه وحكمته اليومية. ينتج عن ذلك دين عابر للقارات، لكنه تائه عن جذوره، دين يرفع شعاراته، لكنه لا يسمعه أحد في قلبه.

حين يصبح الدين بلا ذاكرة

  في الماضي، كان الدين جزءًا من نسيج الحياة: تغنّى به الشعراء، ونُسج في الفنّ والعمارة، وتحوّل إلى فلسفة وسلوك وذائقة. لكن مع صعود الخطاب الديني المتشدد، ومع العولمة التي جعلت كل شيء قابلًا للتسويق، فقد الدين تلك المساحة الرحبة، وأصبح لغة من الأوامر لا من الجمال. إنّ الدين الذي يقطع خيطه الثقافي يصبح عقيدة بلا ضوء، وطقسًا بلا دفء. فالثقافة ليست زينة الإيمان، بل ذاكرته الأولى، وصوته الذي يربط الروح بالإنسان. ومن يفصل الدين عن الثقافة، يترك الروح في فراغٍ، لا تصله فيه السماء ولا الأرض.

 

 

الواقع العربي والعراقي نموذجًا

  في مجتمعاتنا العربية، خصوصًا بعد عقود من الصراع والانقسام، تحوّل الدين إلى شعار سياسي أكثر منه تجربة ثقافية روحية. نمارس الدين في البرلمان أكثر مما نعيشه في الشعر والموسيقى والضمير. وبهذا المعنى، نعيش تمامًا ما وصفه روا: نتمسّك بالدين شكلاً، ونفقد ثقافته ومعناه. الدين عند كثيرين أصبح وسيلة هوية وانقسام، لا لغة محبة وحكمة. وبدل أن نعيد وصل الدين بالإنسان، جعلناه سلاحًا في صراع الإنسان ضدّ الإنسان.

نحو استعادة المعنى

   ما يدعو إليه روا ليس فصلًا جديدًا، بل عودة إلى الوصل: أن نستعيد الدين كجزء من الثقافة، لا كبديل عنها؛ كجمال يضيء الحياة، لا كقانون يضيّقها؛ كحوار بين الإنسان والسماء، لا كحرب بين المذاهب على من يملك السماء. الخطر اليوم ليس في أن تُفصل الدولة عن الدين، بل في أن يُفصل الدين عن الإنسان، عن ذاكرته، ولغته، وجماليات، وجوده. فالدين بلا ثقافة، مثل شجرة اقتُلعت من تربتها، تبقى خضراء لحظةً، ثم تذبل بصمتٍ لا يسمعه أحد.

خاتمة

   ينتقل النقاش من سؤال (من فصل الدين عن الدولة؟) إلى سؤال أعمق: (من فصل الدين عن الإنسان؟ (. إنّ المستقبل لا يحتاج إلى علمانية تُقصي الدين، ولا إلى تديّن (الفقه) يُقصي الثقافة، بل إلى توازن يُعيد وصل الإيمان بالله، بالمعرفة، والقداسة بالإله، بالإنسانية. وهذا هو التحدي الذي طرحه أوليفييه روا بجرأة: أن نُنقذ الدين من الجهل المقدّس (فقه رجال الدين)، وأن نُعيد له حضوره الثقافي الجميل الذي جعله يومًا لغة القلب والعقل معًا.. يعيش بكنفٍ علمانية معتدلة ، هو فصل التدين عن الدولة والسياسة ، وليس الدين.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية