الاستبداد والدين بين رؤية الكواكبي ومفهوم العلمانية

 

الاستبداد والدين بين رؤية الكواكبي ومفهوم العلمانية

بقلم عدنان الطائي

يقول عبد الرحمن الكواكبي في واحدة من أكثر مقولاته عمقًا ونفاذًا:

"المستبد لا يحارب الدين، بل يسرقه ثم يصنع منه نسخة مشوهة تبرر ظلمه وتضمن خضوع رعيته."

    هذه العبارة ليست مجرد نقد للاستبداد السياسي، بل هي كشف فلسفي دقيق للعلاقة الملتبسة بين السلطة والدين في المجتمعات التي تتداخل فيها المقدسات مع الحكم. فالكواكبي، الذي عاش مرارة الاستبداد في نهايات القرن التاسع عشر، أدرك أن أخطر ما يفعله الطغاة ليس قمع الأصوات الحرة فحسب، بل تزييف الوعي الجمعي باسم الدين.

    فالطاغية، حين يدرك أن القهر وحده لا يكفي لإدامة سلطته، يلجأ إلى اختطاف الدين وتحويره ليصبح أداة طيّعة بيده؛ يصوغ منه فتاوى الطاعة، ويُلبس ظلمه ثوب القداسة، ويُخرس المعترضين بتهمة العصيان الديني لا السياسي. وهكذا يتحول الدين، الذي وُجد ليحرر الإنسان، إلى سلاحٍ يُستعمل لاستعباده. ومن هنا، تبرز العلمانية لا كعداءٍ للدين – بل كحركة تحرر للعقل الإنساني من سطوة التأويل السياسي للمقدّس. فالفصل بين الدين والسياسة لا يعني نفي الإيمان، بل حمايته من الاستغلال. العلمانية الحقة لا تطلب من الإنسان أن يترك معبده، بل تطلب من الحاكم ألا يجلس على عرشه متخفيًا وراءه. لقد أراد الكواكبي من تحليله أن يُظهر أن أصل البلاء ليس في الدين، بل في تديين السياسة. وما تدعو إليه العلمانية هو عين ما حذر منه الكواكبي: أن يُستعمل الدين لتبرير الطغيان، وأن يتحول الواعظ إلى بوقٍ للسلطة، والمحراب إلى منصةٍ للتهليل للحاكم.

    إنّ التقاطع بين فكر الكواكبي ومفهوم العلمانية يتجسد في هدفٍ واحد: تحرير الإنسان من التسلط باسم الله، وردّ الدين إلى مكانه الطبيعي كمنظومة قيم روحية وأخلاقية لا كوسيلة حكم. فالمجتمع الذي يميز بين ما لله وما للناس، هو المجتمع الذي يحمي الإيمان من التلوث بالسياسة، ويحمي السياسة من أن تُحاط بالقداسة. وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ مقولة الكواكبي تمثل لبنة فكرية في بناء المفهوم العلماني العربي قبل أن يُصاغ المصطلح بصورته الغربية المتداولة؛ فهي دعوة إلى تطهير الدين من الاستغلال، والسياسة من التقديس، لتبقى الحرية هي الرابط الأسمى بين الإنسان وربّه، وبين المواطن ووطنه.

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية