✦ صرخة في وجه الأب... وفي وجه العالم ✦

 

صرخة في وجه الأب... وفي وجه العالم

بقلم: عدنان الطائي
كاتبٌ يكتب من رماد الذاكرة...
ومن جوعٍ لم يزل يتنفس في صوته.

تمهيد: النص يتمثل بمونولوج داخلي يبدأ بهدوء كافكاوي متأمل ثم يتصاعد بعنف محمد شكري وتمرده، لأنه يجمع بين صوت الوجع الداخلي الهادئ وانفجار الصرخة الواقعية الممزقة.

النص

في البداية، كان الصمت.
صمتٌ كثيفٌ يشبه خوفَ طفلٍ يتقوقع داخل عتمةٍ أليفة،
يُصغي لأنفاسه المرتعشة كأنها اعترافٌ مبكرٌ بالهزيمة.
كان وجه أبي يطلّ من عمق الظلّ ككابوسٍ لا يشيخ،
كلما حاولتُ نسيانه، عاد يحمل سوطه ودموعه معًا.

لم يكن ينظر إليّ، بل إلى شيءٍ غامضٍ في داخله،
شيءٍ يشبهه، ويقتله فيّ كلّ يوم.
كنتُ أبحث في صوته عن كلمةٍ تشبه الحنان،
فلم أجد إلا صرير الغضب،
وأناشيد الخوف التي تعلّمتُها قبل الأبجدية.

كنتُ أظنه رجلاً، حتى أدركت أنه طفلٌ ضائع في جسد أب.
كلّ الآباء الخائفين يصنعون من خوفهم عصياً،
ويضربون بها أبناءهم كي يطمئنوا أنهم ما زالوا أقوياء.

كافكا بداخلي يهمس لي:

اغفر له... فالعنفُ ابنُ الخوف.”
لكن محمد شكري فيَّ يصرخ:
أيُّ غفرانٍ بعد الدم؟ لقد قتلني كي لا يرى ضعفه!”

كان الجوع يربّي جسدي،
والقهر يعلّمني الكتابة على الجدران قبل الورق.
كنت ألتقط بقايا الخبز من المزابل،
وأبتسمُ للسماء التي لا تنظر إليّ،
وأقول لنفسي:

زبلُ النصارى أرحمُ من زبلنا...
على الأقل لا يضربون أبناءهم بالجوع.”

حين يبكي أبي، كنت أرى وحشًا يبكي من جريمةٍ يعرف أنه سيكررها.
يبكي ليغسل يديه من الدم، لا قلبه من القسوة.
كنت أراه قاتلًا في الليل، نادمًا في الصباح،
كأن الله نفسه اختار أن يتفرج علينا من وراء ستارٍ من الغياب.

صعود الصرخة

كفى صمتًا...
لقد سئمتُ أن أكون ضحيةً تُزيَّنُ بالدموع،
وسئمتُ أن ينام الجلادُ على وسادة الغفران.
لم أعد أؤمن أن الألم يطهّر،
فالألمُ لا يُطهّر، بل يعلّمنا كيف نعضّ الحقيقة بأسنانٍ من نار.

يا أبي... يا وجهَ الزمن المكسور،
بكيتك مرةً حين كنتُ ضعيفًا،
أما اليوم، فأبكيكَ لأنك صرتَ مرآةَ وطنٍ
يقتل أبناءه ثم يبكيهم على شاشات المساء.

يقولون لي: اصبرْ.
لكن أيُّ صبرٍ هذا؟
صبرٌ على الجوع؟ على الضرب؟ على الصمت؟
على أن نُولد بلا خبزٍ ولا كرامةٍ ثم يُقال لنا: هذا قدركم!
أيُّ إلهٍ يرضى بالمهانة ويبارك القهر؟
إن كان القدرُ سوطًا، فإني أكسر القدر بيدي.

أنا ابنُ المزابل التي أطعمتني،
وابنُ الليل الذي خبّأني من قبضتكم،
وابنُ كلّ أمٍّ نامت على الدموع وابتسمت كي لا تجوّع أبناءها.

كافكا داخلي ما زال يهمس:

لا فائدة من الصراخ، العالم لا يسمع.”
لكن محمد شكري فيّ يردّ عليه:
بل سنصرخ، حتى لو سمعنا نحن فقط،
فالصمتُ جريمة أكبر من الجوع.”

النداء الأخير

أصرخُ باسم الذين ماتوا وهم يبحثون عن خبزٍ نظيف،
عن مدرسةٍ لا تقتل الحلم،
عن وطنٍ لا يسرق الدفء من صدورهم.

أصرخُ بوجه الآباء الذين أورثونا الخوف بدل الحب،
وبوجه الأوطان التي جعلت من الجوع عقيدةً،
ومن الذلِّ قانونًا.

أصرخُ لأنني، حين أصمت، أُشبههم،
ولأن الصوت آخر ما تبقّى من إنسانيتي.

أيها العالم، اسمعني جيدًا:
لقد جاع الطفلُ في داخلي حتى أكل الخوفَ نفسه،
والآن، حين أتكلم،
فإني أتكلمُ باسم الذين لم ينجوا من الطفولة،
باسم الذين أكلهم آباؤهم،
باسم الذين كتبوا على الجدران بدل الدفاتر،
وباسم الذين ماتوا وهم يبتسمون للسماء.

أنا لستُ ابنَ خطيئة،
بل ابنُ هذا الألم الذي سيغدو يومًا قصيدةً
تُصفعُ بها وجوهُ الظالمين.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية