هذا هو نهجي بين الله والإنسان: سفر البحث عن الحقيقة

 

 هذا هو نهجي بين الله والإنسان: سفر البحث عن الحقيقة

عدنان مهدي الطائي

تصدير فلسفي تمهيدي

    في زمنٍ تتنازع فيه العقول بين يقينٍ موروث وشكٍّ متمرّد، وتُختزل فيه الأديان إلى شعائر بلا روح، والفكر إلى جدلٍ بلا ضوء، يخرج هذا النصّ ليعيد للتساؤل قدسيّته، وللعقل كرامته، وللإيمان نقاءه الأول. هو ليس إعلانًا لعقيدة، ولا تمرّدًا على الإيمان، بل بحثٌ شجاعٌ عن الله في أفقٍ أرحب من النصوص، وأقرب إلى جوهر الإنسان. ينطلق الكاتب من إيمانٍ نقيٍّ لا تشوبه خرافة، وعقلٍ يقظٍ لا يعرف الخوف من السؤال، ليبني جسورًا بين الروح والفكر، بين الله والعقل، بين الميتافيزيقا والواقع. إنه سفرُ عقلٍ متعبٍ وضميرٍ يقظٍ، لا يطلب الحقيقة ليملكها، بل ليكون جديرًا بالبحث عنها. في هذا السفر، تتجلّى فلسفة التوازن التي تحكم رؤيته: إيمانٌ بلا تعصّب، وعقلٌ بلا إنكار، وثقافةٌ ثائرة تحرس الحياة من الرماد. ومن بين هذا النور الممزوج بالشّك، يولد الإنسان الحقّ — الباحث لا الواعظ، العارف لا المتحزّب، المؤمن بالحبّ لا بالخوف.

النص الكامل

في مرافئ الفكر الحائر بين قداسة الإيمان ودهشة العقل، يبدأ السفر الطويل نحو الحقيقة. نؤمن بما لا تدركه الأبصار، ونتساءل عمّا تضيق به المدارك؛ ففي المسافة الشاسعة بين الله والإنسان، تنبت الأسئلة، ويولد الإنسان الحقيقي حين يمشي على جسرٍ متأرجح بين نور الإيمان وشكّ المعرفة.

نهجي وفكري:

    إني أؤمن بوجود الله، الكائن المقدّس الذي لا تدركه العقول، ولا تمسّه التناقضات، فهو معصوم من الخطأ، ودونه كلّ مقدّسٍ زائف. ومن هذا الإيمان أنطلق إلى منهجٍ علمانيٍّ معتدل، يفصل الدين عن الدولة والسياسة، صونًا لقدسيّة الدين من دنَس المصالح البشرية. أُميّز بوضوحٍ بين الدين والتديّن؛ فالدين، في جوهره، منظومة قيمٍ أخلاقيةٍ وإنسانية، قائمة على العدل والتسامح والمحبة، تتمحور حول الإيمان بكائنٍ علويٍّ لا تحدّه حدود. أمّا التديّن (الفقه)، فهو تعبيرٌ بشريٌّ عن تلك القيم، يخضع لمبدأ التناقض والتفاوت، وينساب مع أهواء النفوس والعقول. لذلك يكون التديّن أحيانًا انفعالًا نفسيًا معقدًا، تفرزه مكبوتات دفينة، ويتجلّى أحيانًا في صورة تطرفٍ فكريٍّ وسلوكيٍّ، مما يجعله عرضةً للنقد والتفنيد، وهو ما يتجسّد في ذهنية رجال الدين. اقتصاديًا، أتبنّى المنهج الماركسي باعتباره نقدًا للظلم الاجتماعي، دون أن أنزلق إلى الشيوعية كسياسةٍ شموليةٍ مثالية، أشبه بحلم المدينة الفاضلة. وأؤمن بـ الديمقراطية والليبرالية المنضبطة، كأنظمةٍ متغيّرة ومتجددة مع تطوّر الفكر الإنساني، خاضعة لمنطق: «أنا حرّ ما لم أتجاوز حرّية الآخرين»، ومنسجمة مع ثلاثيتي الفكرية الراسخة: النسبية، الوسطية، وملاقحة الإيجابيات من الأفكار، عبر جدليةٍ ماديةٍ ترى أن الصراع هو محرّك التطوّر.

   إن الإحساس العميق بالجهل هو الخطوة الأولى نحو المعرفة؛ فما نجهله عن هذا الكون الفسيح أعظم مما نعلمه بكثير. وحين نقارن شحّ معرفتنا بسعة جهلنا، ندرك هشاشتنا وتواضعنا أمام عظمة المجهول. لا نملك من التاريخ إلا شذراتٍ جزئية، ونرفض أحيانًا ما نعجز عن تحديده، ولكن يبقى الإحساس المستمر بالجهل فضيلة لا غنى عنها لمن يروم الحكمة.

    لقد شغلتني طويلًا قضية الأديان: نشأتها، تعددها، واختلاف طقوسها، حتى غصت عميقًا في أعماقها بحثًا عن سرّها. وكانت خلاصة بحثي أن الأديان، كما نعرفها، هي إبداعات العقل البشري عبر العصور، وليست تنزيلات سماوية. فلو شاء الله الواحد الأحد، لبعث إلى البشر جميعًا دينًا واحدًا بلا تباين في الشكل أو الجوهر. لذا أرى أن تلك الأديان، على اختلافها، تمثّل جزءًا من حضارات وثقافات الشعوب المختلفة، تنعكس فيها حاجات الإنسان الروحية والاجتماعية عبر الأزمنة والأمكنة.

    ومع رحلتي هذه، أجد أن الثقافة الحيّة لا تستقرّ في الجمود، بل تنحاز دائمًا إلى الجديد ضد القديم، إلى المتغيّر ضد الثابت، إلى النار ضد الرماد، إلى الحلم ضد الركود. وكلّما انحازت الثقافة إلى الحياة، اضطُهدت، واضطُهد المثقفون، لأنهم يحملون شرارة الوعي في وجه الظلام. غير أن البداهة تفرض أن يكون المثقّف ثائرًا أو لا يكون، وأن تكون الثقافة فرحًا كونيًا ضد كل ظلاميةٍ أو لا تكون. فالثقافة الحقيقية ليست ترفًا معرفيًا، بل مقاومة خلاقة ضد التكلّس، واحتفاء أبدي بالإنسان.

خاتمة:

وهكذا، أسير في دربٍ بين الإيمان والعقل، أحتكم إلى نور الله الذي لا تدركه الأبصار، وإلى العقل الذي لا يكلّ عن السؤال. أؤمن بأن الحقيقة ليست وقفًا على عقيدةٍ موروثة أو فكرٍ جامد، بل هي سفرٌ دائم نحو المعرفة والعدل والجمال. وفي هذا السفر، ألتزم بثلاثية الحرية: نسبية الفكر، وسطية الرؤية، وملاقحة الأفكار الخيّرة. أعيش إيماني حرًا، وأفكاري طليقة، وأدرك أن الإنسان كلّما أخلص للبحث عن الحقيقة، اقترب خطوةً نحو ذاته، ونحو الله. هذه رؤيتي، وهذا منهجي الذي أعتزّ به.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية