الطبعُ يغلُبُ التطبُّع) قصة ذات بعدٍ أدبيٍّ فلسفيٍّ سيكولوجي مستندة إلى فلسفة فرويد

 

(الطبعُ يغلُبُ التطبُّع)

 قصة ذات بعدٍ أدبيٍّ فلسفيٍّ سيكولوجي مستندة إلى فلسفة فرويد
بقلم: عدنان الطائي

في أحد الأزقّة القديمة، كان يعيش "سليم"، رجلٌ هادئ الملامح، يعمل موظفاً في دارٍ للمسنّين. كان يبدو متزناً، مؤدّباً، ودوداً في حديثه إلى الجميع، حتى أنّ الناس لقبوه بـ"الملاك الصامت". غير أنّ وراء ذلك الوجه الوادع كانت تختبئ غابةٌ من الأصوات والغرائز، تُنازع في أعماقه كما لو كانت حيواناتٍ محبوسة منذ دهور. منذ طفولته كان سليم يُعاقَب إنْ صرخ، ويُلام إنْ بكى، ويُوبَّخ إنْ أبدى رغبةً أو انفعالاً. تعلّم باكراً أن يخفي ذاته خلف ابتسامةٍ مصطنعة، وأن يُخضع كلّ رغباته لسلطة الأب ثم لسلطة المجتمع، حتى صار التهذيب قناعاً لا وجهاً. لكنه في داخله كان يسمع همسًا خفيًا، يذكّره بما قاله فرويد: "ما تُكبتُه اليوم، سيعودُ غداً بأقنعةٍ أكثر قسوة." وذات مساء، حين تأخر عن عمله، دخل غرفة أحد المسنّين فوجده يحتضر، فاقترب ليساعده. لكنّ العجوز أمسك بيده وقال بصوتٍ متهدّج: – "لا أحد يُنقذُ نفسه بالتظاهر يا بُنيّ... فالطبع لا يُشفى بالتطبّع." كانت الكلمات كطعنةٍ في ذاكرته، أيقظت وحش الطفولة النائم، ذلك الطفل الذي كان يُجبر على الصمت حتى في بكائه. في تلك الليلة، جلس سليم أمام المرآة طويلاً، يحدّق في ملامحه التي لم يعرفها من قبل. سأل نفسه: "كم من السنوات لبستُ فيها قناع الأنا الأعلى؟ وكم مرة خانني الهو في أحلامي؟" كان يرى في عينيه شيئاً بدائياً، عارياً من المجاملة، شيئاً يشبه الحقيقة. ومنذ تلك اللحظة تغيّر سليم. لم يعد يبتسم كثيراً، ولم يعد يرضي الجميع. صار أكثر صدقاً، وإن بدا قاسياً. وحين سأله أحدهم عن سرّ تغيّره أجاب بهدوءٍ فلسفيّ: – "كنتُ أعيشُ وفق ما أراده الناس، لا وفق ما أنا عليه. الآن، تصالحتُ مع نفسي، حتى وإنْ نبذني الآخرون." لقد أدرك أن الإنسان لا يُمكنه أن يقتل طبعه، بل أن يروّضه فقط. وأنّ الطبعَ، كالماء، مهما غيّرت مجراه، سيبحث عن طريقه إلى البحر. وفي نهاية القصة، كتب سليم في دفتره عبارةً صارت كأنّها وصيّته الأخيرة: "إنَّ التطبّعَ قيدٌ مؤقت، أما الطبع فهو الحقيقة العارية التي لا تنام."

 التحليل الفلسفي والنفسي

تُجسّد القصة الصراع الأزلي داخل النفس البشرية بين الطبيعة الأصيلة (الهو) والضوابط الاجتماعية (الأنا الأعلى)، وهو ما وصفه فرويد بأنه صراع بين الغريزة والضمير. فـ"سليم" ليس مجرد شخصية، بل هو رمزٌ للإنسان الذي حاول أن يروّض ذاته وفق معايير المجتمع، مُتناسياً صوته الداخلي الذي يطلب الحرية. إنّ الهو في داخله كان يمثّل الرغبات المكبوتة، والعواطف الصادقة التي حُوصرت باسم التهذيب والواجب. أما الأنا الأعلى، فهو ذلك القاضي القاسي الذي لا يرحم، يُملي عليه ما يجب أن يكون عليه لا ما يريد أن يكون. وفي الوسط يقف الأنا، في محاولةٍ دائمة للموازنة بين الحقيقتين، لكنه يُهزم حين تتراكم الأقنعة ويخنقها النفاق الاجتماعي. القصة تقول بلسانٍ فلسفيٍّ واضح:

    إنّ الإنسان لا يستطيع أن يقتل طبيعته، بل يمكنه فقط أن يجمّلها أو يؤجل ظهورها. وما يُكبت في اللاوعي لا يموت، بل ينتظر لحظة انبثاقه ليُعلن وجوده، وربما انتقامه. فـالطبع هو جوهر الكينونة، والتطبّعُ هو محاولتنا التكيّف مع سجن الواقع.

 الخاتمة التأملية

    جلس سليم في آخر المساء يراقب الشمعة المترنّحة أمامه، شعاعها يتلوّى كروحٍ تتأرجح بين الظلّ والنور. قال في نفسه: "كم يشبهني هذا اللهب... يحترق ليضيء، ويُضيء ليحترق." أدرك حينها أن الإنسان ليس كائناً واحداً، بل ساحةُ صراعٍ بين وحشٍ يريد الحياة كما يشتهي، ووصيٍّ يريدها كما يجب. وأنّ الطبعَ ليس خطيئة، بل حقيقةٌ وُلدت معنا، وأنّ التطبّعَ ليس فضيلة دائماً، بل قناعٌ نرتديه كي نحيا في سلامٍ زائف. أطفأ الشمعة بيده، فغمره ظلامٌ مطمئن، ثم همس وكأنه يخاطب ذاته العميقة: "لقد تصالحتُ مع ظلي... فمن لا يقبل ظله، لن يعرف نورَه أبداً."

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية