وطني المنسي – خريف 2005

 

وطني المنسي – خريف 2005

نص هايبردي (Hybrid Text) هجيني بين القصة والمسرح

بقلم عدنان الطائي

الإهداء: إلى أرواح أولئك الذين رووا أرض العراق بدمائهم، إلى كل من قاوم النسيان بالحلم، إلى مما زال يؤمن أن الوطن لا يُنسى، وإن غرق في العتمة.

المشهد الأول: يوم دامي

في مساء خريفي ثقيل من عام 2005، فقدت وطني.

وفي صباح اليوم التالي، فقدت كرامتي.

كنت جالسًا خلف نافذتي، صامتًا كتمثال منسي، أراقب الضوء المذبذب القادم من الشارع، شاحبًا كوجه عجوز أنهكته الحروب. كان الهواء يحمل رائحة دخان خفيف، كما لو أن المدينة تتنفس من فم جريح.

لم تكن ليلة عادية.

سمعت انفجارات متقطعة، وصرخات تنكسر عند عتبات الدور، ثم تسكت، كما لو أن الزمن نفسه اختنق بصراخها.

أحسست بأن شيئًا ما انتهى.

أو أن شيئًا أكبر قد بدأ.

أغمضت عيني للحظة، فإذا بالمشهد يتكشّف بداخلي كما لو أنه يحترق على شاشة قلبي:

عشب أخضر يتصاعد منه دخان أسود، خوذ محشوة برؤوس جنود، فارغة الآن من الجماجم، وأشلاء تتناثر بلا أسماء. رؤوس أطفال مرمية، تختبئ خلف ظل غامض، كأنهم يحاولون الاحتماء من العالم الذي غدر بهم.

رأيت رتلاً من الهمرات يطوق الشوارع، أبراجها تعج بالجنود، أصابعهم مشدودة على الزناد، يتأهبون.

كأنهم يخافون من انتفاضة جماجم بلا أجساد.

كم هو مضحك أن يخاف المدجّجون من الصمت، من العظام، من الأشباح التي خلقوها بأيديهم.

ارتعش جسدي، تلك القشعريرة التي تسري عندما يدرك الإنسان أنه لم يعد جزءاً من هذا العالم.

أحسست أنني أصبحت شبحًا آخر من أشباح هذا الوطن الذي نُهب روحه.

أنقذني الهواء الأيلولي للحظة.

كان يحمل ذاكرة قديمة، حين كانت بغداد تستفيق على رائحة الخبز، لا البارود.

لكن رصاصة مزقت زجاج نافذتي.

سقطت. لا أدري إن كنت ميتًا أو فقط منهارًا.

كلبي قفز عليّ، بدأ يلعق وجهي، كأنه يحاول أن يوقظ ما تبقى من الحياة في داخلي.

رفعت رأسي بصعوبة، نظرت من الشرفة

فإذا بالشمس تشرق على يوم دامي جديد، وقد تحول الهواء إلى دخان بركاني، خانق، يشبه الموت حين يتعفن في صدر المدينة.

يا وطني

هل كتب عليك أن تكون مرقد الأنبياء ومسرح الوحوش؟

أن تطأك الأفاعي، وتنهشك الضباع السائبة، بينما شعبك بين غريب مرتزق، أو ابن عاق، أو شاهد عاجز؟

يا وطني… من سرقك مني؟ ومن سرقني منك؟

 المشهد الثاني: شوارع الرماد

خرجت من باب المنزل مترددًا، حافي القدمين، كأن الأرض تناديني كي ألمس وجعها مباشرة دون حواجز.

كانت الشوارع مكسوة بالرماد، ليس رماد نار، بل رماد زمن.

المباني تشبه بقايا كتب محترقة، كل جدار فيها صفحة ممزقة من تاريخنا المنسي، وكل نافذة عين مكسورة كانت ذات يوم تطلّ على الحياة.

رأيت الطفل الذي كان يبيع المناديل عند إشارة المرور.

لكن لا إشارات بعد اليوم.

ولا مرور.

كان يجلس على الرصيف، يحدّق في يده الفارغة، كأنها لم تعد يده.

اقتربت منه. همست:

ماذا تنتظر يا صغيري؟

رفع رأسه وبصوت خافت أجاب:

أنتظر أمي تشتري مني… لكنها لم تخرج من تحت الأنقاض بعد

أنتظر أمي تشتري مني… لكنها لم تخرج من تحت الأنقاض بعد.

أردت أن أصرخ. أن ألطم وجهي. أن أقول شيئًا، أي شيء، ولكن اللغة خانتني.

كيف أواسي من لا أم له، وأنا لا وطن لي؟

مضيت نحو ساحة المدرسة.

ذلك المكان الذي تعلمنا فيه كيف نرسم الشمس بلون أصفر فاقع، ونكتب اسم "العراق" بالحبر الأخضر.

وجدت البوابة مشرعة، كأنها فم ميت مفتوح، عاجز عن النطق.

دخلت. لا طلاب، لا معلمين، لا دفاتر.

فقط سبورة يتيمة، كتب عليها أحدهم:
"

"هنا كان حلمٌ واندثر

"هنا كان حلمٌ واندثر."

مشيت أكثر، لا أدري إلى أين.

كل الطرق تؤدي إلى الرماد.

على رصيف مجاور، جلست امرأة عجوز، تبيع قطعًا من ذاكرة الوطن.

أوراق نقدية من زمن الجمهورية، بطاقات تموينية، شريط كاسيت لعبد الحليم، صورة قديمة لتمثال الرصافي.

قلت لها:

من يشتري الذاكرة؟

من يشتري الذاكرة؟

قالت:

من خسر كل شيء، يبيع حتى ماضيه

من خسر كل شيء، يبيع حتى ماضيه.

يا الله

أين كنت حين سُرقت مدينتي؟

أين كنت حين تمّ تقاسم الوطن كغنيمة بين أعداء الداخل وأصدقاء الخارج؟

عدت إلى منزلي قبل الغروب.

جلست على الأرض، ظهري للحائط، رأسي بين يديّ.

كل شيء كان ساكنًا… حتى البكاء.

حتى الحزن نفسه، بدا خجولًا من هذا الخراب.

همست لنفسي:

لا أريد أن أموت الآن… لا قبل أن أدفن وطني بيدي، إن لم أقدر على إحيائه

لا أريد أن أموت الآن… لا قبل أن أدفن وطني بيدي، إن لم أقدر على إحيائه.

المشهد الثالث: ليل الرماد

حين سقط الليل على المدينة، لم يأتِ بطمأنينة العتمة التي تستر الوجع.

بل كان ليلًا فاضحًا، كأن النجوم أبت أن تطل، خجلًا من كل هذا الخراب.

الظلام لم يكن سوى امتداد للدخان، وكل ضوء – مهما كان ضئيلًا – صار هدفًا لرصاص الخوف.

جلست على السرير، إن صحّ أن يُسمّى هذا الركام سريرًا.

أحاول أن أغمض عيني.

لكن الجفن ثقيل، مثقل بالصور:

رؤوس الأطفال.

أشلاء الرفاق.

عجوز تبيع الذاكرة.

وطفل ينتظر أمًا لن تعود.

نصف نائم، نصف يقظ… وإذا بالكابوس يأتي.

رأيتني أمشي في شارع لا نهاية له.

البيوت فيه تبكي… نعم، الجدران كانت تبكي.

كلما لامستُ أحدها، سمعت أنين امرأة أو صرخة رجل أو زغاريد مخنوقة في فم أم شهيد.

وكانت هناك لافتة، معلقة على كل باب، كأنها نُصب جنائزي مكتوب عليه:
"

"هنا عاش إنسان… ومات وطن

"هنا عاش إنسان… ومات وطن."

ظهر فجأة رجل بلا ملامح.

اقترب، ومدّ إليّ مرآة.

نظرت فيها

فرأيت وطني.

لكن وجهه كان يشبه وجهي.

وعيناه مليئتان بالخذلان.

فصرخت فيه:

لماذا تركتني؟

لماذا تركتني؟

أجابني دون صوت، لكن كلماته اخترقت رأسي:

بل أنتم من بعتموني، كلٌّ بطريقته

بل أنتم من بعتموني، كلٌّ بطريقته.

استيقظت على دوي انفجار في الحي المجاور.

الغبار تسلل من النوافذ كضيوف لا يُرحب بهم.

كلبي نبح ثم سكت، كأنه أدرك أن لا جدوى من التحذير.

قمت أجرّ جسدي كأنني أحمل نعش نفسي.

ذهبت إلى المطبخ. لا ماء. لا كهرباء.

مجرد ضوء شمعة يتراقص مع الريح… وحشرة تدور حوله كما يدور الوطن حول موته.

جلست أكتب.

نعم، لم يتبقَّ لي سلاح سوى الكتابة.

إن متّ، دعوا أوراقي تشهد أنني لم أسكت.

أنني لم أكن فقط شاهداً، بل عاشقًا جريحًا ظل يصرخ باسم وطنه حتى الرمق الأخير.

المشهد الرابع: صباح الرماد الأخير

استيقظتُ دون أن أنام حقًّا.

أجفاني مفتوحة على اللاشيء، وجسدي نصف غائب في أرضٍ بلا معنى.

كان الصباح كئيبًا… لا زقزقة عصافير، لا صوت مؤذن، لا رائحة خبز تفوح من بيت الجيران.

كل شيء صامت، إلا الذاكرة

الذاكرة تصرخ.

خرجتُ من البيت أمشي فوق طبقات من الغبار، كأن المدينة دفنت تحت الرماد، ونسيت أن تموت.

مررتُ بجدار متهالك، كُتب عليه بخط أسود:
"

"لا تبكِ يا عراق، فالبكاء لك لا يكفي

"لا تبكِ يا عراق، فالبكاء لك لا يكفي."

وقفتُ أمامه طويلاً.

تمنيت لو كانت الجدران تُجيب.

تابعت السير.

وفي زاوية الشارع، رأيت فتًى يزرع شتلة صغيرة وسط الركام.

اقتربتُ منه.

كان وجهه نحيلًا، يده ترتجف، لكن عينه… عينه لم ترتجف.

قلت له:

ما تفعل؟

ما تفعل؟

قال ببساطة:

أزرع ظلًّا لطفلٍ لن يجد شجرة

أزرع ظلًّا لطفلٍ لن يجد شجرة.

لكن من قال إن الشتلة ستعيش؟

لكن من قال إن الشتلة ستعيش؟

نظر إليّ مبتسمًا، وقال:

ومن قال إنّنا يجب أن نُجزم؟

ومن قال إنّنا يجب أن نُجزم؟

يكفينا أن نحاول.

تلك الكلمة ضربتني كرصاصة في القلب.
"

"يكفينا أن نحاول

"يكفينا أن نحاول".

ربما لم يكن هذا "الوطن المنسي" بحاجة لأكثر من شتلة… كلمة… يد لا تنسحب.

عدتُ إلى بيتي، أخرجت دفاتري، رتّبت أوراقي،

كتبت على أول صفحة:
"

"من تحت الرماد… يبدأ الوطن

"من تحت الرماد… يبدأ الوطن."

جلستُ عند النافذة،

الكلب إلى جانبي،

الريح تداعب وجهي دون دخان،

والشمس تجرؤ على الظهور، خجولة، لكنها جاءت.

لأول مرة منذ سنوات،

أحسست أن الصباح ليس مجرد وقت،

بل إمكان.

المشهد الخامس: رسالة إلى من تبقّى

يا أنتَ، يا مم زلت تقرأ

يا من لم تبلعك الشاشات، ولم تسرقك العناوين المزيّفة

اعلم أنك لست وحدك.

ربما نسينا الطريق،

أو خانتنا أصواتنا،

أو تعثرت أحلامنا في زواريب السياسة والدم

لكن هناك دائمًا من يظل واقفًا، لا يشتهر، لا يصرخ، لا يُصفّق

بل ينتظر.

أنا واحد منهم.

رجل شاخ في لحظة، فصار يحمل وطنًا على ظهره كأنه قبر متنقّل.

كتبتُ هذه الرسالة في زاوية غرفتي الباردة،

على ورقة سُرقت من دفتر قديم،

وبقلم جفّ حبُره ثم عاد حين بلّلته دمعة.

أقول لك:

ما زال في الأرض متّسع لصوتنا،

ما زالت بعض الجدران تصلح لكتابة الحقيقة،

وما زال هناك طفل واحد على الأقل

يريد أن يعيش دون أن يسمع صفير الرصاص.

أنتَ البقيّة الباقية

لا تجعلهم يقنعونك بأنك لا تساوي شيئًا،

فهم لا يخافون الجيوش، بل كلمة صادقة، نظرة نزيهة، وقفة لا تنحني.

علّق هذه الرسالة على باب قلبك،

واقرأها كلما شعرت أن الوطن تلاشى.

لأنه لم يتلاشَ… بل ينتظر عودتك.

المشهد السادس: الأمل في انتظار يوم جديد

الفجر هذه المرة لم يكن خائفًا.

جاء على مهل، مثل طفلٍ يتسلّل إلى حضن أمّه بعد غياب.

الظلال خفّت، والدخان هدأ، والنوافذ بدأت تفتح بحذر، كأنها تخشى أن تصدّق النور.

جلستُ على كرسيّي المعتاد عند الشرفة،

لكني لم أكن كما كنت.

كان في قلبي شيء مختلف… شيء يشبه الرجاء.

مرت امرأة تحمل بيدها وردة، وبالأخرى رغيف خبز.

ورأيت شابًا يصلّح دراجة مهترئة لطفلٍ يبكي، ثم يضحك معه بعد لحظات.

وعجوز كان يُمسك مسبحته، لكنه يراقب زرعًا بدأ يورق وسط الخراب.

حتى الكلب، صاحبي الوحيد، بدا وكأنه يشعر أن ثمة تغييرًا في الهواء.

كأن الأرض نفسها قرّرت أن تُمهلنا

أن تعود لنا إن عدنا لأنفسنا.

رفعتُ رأسي إلى السماء،

فرأيت طائرًا يعبرها، حرًّا،

لا يسأل عن الحدود، ولا عن الدين، ولا عن العَلَم،

بل فقطيطير.

نظرتُ إلى يديّ،

رعشة بسيطة فيهما،

لكنهما ما زالتا قادرتين على الكتابة

على الزرع

على العطاء.

فقلت لنفسي:

إن لم يكن اليوم هو يوم الخلاص،

فليكن على الأقل بداية الطريق إليه.

وعدتُ إلى دفتري،

أكتب آخر سطرٍ في هذا الفصل، لا القصة كلها:

"سأظل أنتظر، لا كمن ينتظر نهاية،

بل كمن يُؤمن أن الفجر، وإن تأخّر،

لا بدّ أن يأتي."

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية