التاريخ لا يكذب: الطوفان بين لاهوت السماء وحقيقة الأرض

 

التاريخ لا يكذب: الطوفان بين لاهوت السماء وحقيقة الأرض

بقلم عدنان الطائي

  التمهيد

    في ذاكرة الشعوب القديمة، ظلّ الطوفان حدثاً مهولاً يتردّد صداه عبر الأساطير والكتب المقدسة. بين جلجامش ونوح، بين الكعبة والجبال، تاهت الحقيقة بين التاريخ والرمز. فهل غمرت المياه الكرة الأرضية فعلاً، أم أن ما حدث كان كارثة إقليمية صاغها اللاهوت في صورة كونية؟ هذه المقالة تحاول أن تجيب: التاريخ لا يكذب، لكن الإنسان يحوّله إلى أسطورة.

      منذ فجر الحضارات، ظلّ الطوفان حاضراً في الذاكرة الإنسانية كجرح عظيم وكأسطورة كونية. لم يكن مجرّد فيضان عابر، بل رمزا لحدث غيّر ملامح الوعي البشري، حتى أصبح مادة خصبة للملحمات والنصوص الدينية. لكن السؤال يبقى: هل كان الطوفان الذي يروى في الكتب المقدسة فيضاناً عالمياً غمر الكرة الأرضية؟ أم أنه مجرد كارثة إقليمية صاغها اللاهوت بصبغة كونية؟

- الطوفان في لغة الأرض

علم الآثار والجيولوجيا لا يعرفان المجاز.

    في أور وكيش وشروباك بالعراق، وفي مواقع على ضفاف النيل ووادي السند، كشفت الحفريات عن طبقات من الطين والرمال، رسائل صامتة من آلاف السنين. هذه الطبقات تشير إلى فيضانات ضخمة وقعت قبل خمسة آلاف عام تقريباً. كانت كارثة واسعة ومدمّرة، لكنها لم تغمر قارات الأرض جميعها. إذن، الأرض تشهد بفيضانات متكررة، لكنها لا تشهد بطوفان عالمي شامل. 

- الطوفان في لغة الأسطورة

غير أن الإنسان لم يرضَ بالوقائع وحدها. حوّل الكارثة إلى قصيدة، والغرق إلى معنى، والنجاة إلى وعد سماوي.

  • في ملحمة جلجامش، ينجو أوتنابشتم بأمر الآلهة.
  • في الهند، ينقذ فيشنو الحكيم مانو من الغرق.
  • في اليونان، ينجو ديوكاليون وزوجته ليزرعا الحياة من جديد.

كلها روايات تتشابه في بنيتها: موت جماعي، ناجٍ مختار، وبداية جديدة. إنها ليست مجرد أخبار، بل حكمة وجودية تقول إن من رحم الخراب يولد العالم من جديد.

- الطوفان في النصوص المقدسة في التوراة والقرآن

    ارتبط الطوفان بقصة النبي نوح عليه السلام. لم يُقدَّم بوصفه ظاهرة طبيعية، بل كآية للعقاب الإلهي ودرس للبشرية: أن الطغيان نهايته الغرق، وأن الإيمان هو السفينة الحقيقية. لكن هنا يجب التمييز:

  • التاريخ والآثار لا تثبت طوفاناً عالمياً.
  • النصوص الدينية تقدّم قراءة لاهوتية، غايتها التربية الروحية والأخلاقية، لا تسجيل الأحداث بدقة علمية.

- الكعبة والرمزية السماوية

     ومن الروايات الإسلامية ما يذكر أن الكعبة رُفعت إلى السماء زمن الطوفان، ثم أعيدت بعد انحسار الماء. هذا ليس خبراً تاريخياً، بل رمز ميتافيزيقي: الكعبة هنا تمثل "المركز الروحي للعالم"، الذي لا يغرق لأنه متصل بالسماء. إنها صورة شعرية تقول إن القداسة تبقى فوق الكارثة، وأن ما يفنى هو العمران لا المعنى. 

- الدرس الفلسفي

   إذن، لا التاريخ كاذب، ولا العلم منكر، ولا الدين خادع. الحقيقة أن الإنسان يكسو الوقائع بالرموز، ويحوّل الكارثة الطبيعية إلى أسطورة مقدسة، ويجعل من الطوفان درساً أبدياً:

  • العلم يحدّثنا عن فيضانات محلية.
  • الدين يعلّمنا معنى النجاة والعقاب.
  • الأسطورة تحفظ للإنسان ذاكرته الشعرية ورموزه المقدسة.

الخاتمة

    القول إن طوفان نوح غطّى الكرة الأرضية ليس حقيقة تاريخية، بل استنتاج لاهوتي يهدف إلى التعبير عن عظمة الحدث في وجدان المؤمنين. التاريخ لا يكذب، لكنه يروي بلغة الحجارة والطبقات. أما الدين، فيروي بلغة الروح والغاية الأخلاقية. وبينهما تبقى الأسطورة، ذلك الجسر الذي يجعل من الماء الغامر رمزاً للحياة الجديدة بعد الموت. فالطوفان لم يغمر العالم كله… لكنه غمر المخيلة البشرية إلى الأبد.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية