الحداثة الشرقية: النهر الأول للحضارة

 

الحداثة الشرقية: النهر الأول للحضارة

بقلم عدنان الطائي

    كثيرًا ما يربط الناس كلمة "الحداثة" بعصر النهضة الأوروبية، وكأنها وليدة القرن الخامس عشر وحده. لكن استقراء التاريخ يكشف لنا أن الحداثة ليست لحظة غربية عابرة، بل هي روح إنسانية قديمة تجددت منذ فجر الحضارات. فمن الشرق انطلقت الشرارة الأولى، قبل أن تسير غربًا كما أشار هيغل في مقولته الشهيرة.

.1 الصين: حداثة الإدارة والفلسفة

    في الصين، وُلدت الكتابة والبيروقراطية المبكرة، حيث اعتمدت الدولة على امتحانات الكفاءة بدل الوراثة، وهو مبدأ إصلاحي سبق أوروبا بقرون. هنا أرسى كونفوشيوس أساس الأخلاق في الحكم، بينما دعا لاو تسي إلى الانسجام مع الطبيعة. ومن الصين جاءت اختراعات كبرى: الورق، البوصلة، الطباعة، البارود، التي غيّرت مسار العالم لاحقًا.

.2 الهند: حداثة الفكر الروحي والعلمي

   الهند لم تبحث عن التغيير في الأشياء فقط، بل في جوهر الوجود. ففي نصوص الفيدا والأوبانيشاد، طرحت أسئلة عن النفس والعدم والخلود، وأسست مبكرًا لفلسفة وجودية عميقة. ومن الهند جاء الرقم صفر الذي غيّر وجه الرياضيات، ونظريات فلكية سبقت كوبرنيكوس. حداثتها جمعت بين العقل والروح، لكنها كثيرًا ما اصطدمت بصرامة النظام الطبقي.

.3 وادي الرافدين: حداثة الكتابة والقانون والمدينة

   بين دجلة والفرات وُلدت الكتابة المسمارية، فدخل التاريخ زمن التدوين. ومعها وُلد القانون، فجاءت شريعة حمورابي كأول إعلان أن العدالة نصّ مكتوب. ابتكر الرافديون الحساب الستيني، ونظّموا المدن الأولى مثل أوروك وبابل، حيث تأسس مفهوم المدينة–الدولة. هنا كانت الحداثة ضرورة للبقاء أمام تحديات الطبيعة، لا ترفًا فكريًا. 

.4 وادي النيل: حداثة العمارة والطب والتنظيم

   مصر القديمة قدّمت للإنسانية نموذجًا باهرًا في العمارة والهندسة، فالأهرامات ليست قبورًا فحسب، بل بيانًا عن قدرة العقل على صنع الخلود. في الطب، أبدعوا في التشريح والتحنيط، وفي الزراعة ابتكروا أنظمة ريّ دقيقة مرتبطة بدورة النيل. أما نظام الحكم والإدارة فكان قائمًا على مركزية منظمة، تُشرعنها فكرة "ماعت" – العدالة والانسجام الكوني.

الخاتمة: النهر الذي لا ينقطع

    الحداثة ليست اختراعًا أوروبيًا خالصًا، بل نهر قديم بدأ في الشرق: من الصين والهند إلى الرافدين والنيل، ثم تدفق نحو اليونان وأوروبا. وإذا كانت النهضة الغربية قد صاغت حداثة جديدة، فإنها لم تكن البداية، بل امتدادًا لرحلة إنسانية أطول.

     وإن الاعتراف بالحداثة الشرقية لا ينقص من قيمة التجربة الأوروبية، بل يردّ للتاريخ توازنه، ويذكّرنا أن كل حضارة أضافت لبنة في صرح الإنسانية. فالحداثة لم تولد مرة واحدة، بل وُلدت كلما تجرأ الإنسان على السؤال، واكتشف أفقًا جديدًا للحياة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية