الحب حين يتجسد: عناق أنقذ الحياة

 

الحب حين يتجسد: عناق أنقذ الحياة

    في عام 1995، خرجت إلى العالم حكاية لا تُشبه سائر الحكايات الطبية، بل تقترب من المعجزات الإنسانية. كيري وبرييل، توأم وُلِد قبل أوانه بثلاثة أشهر في ماساتشوستس، كانتا مجرد جسدين صغيرين لا يتجاوز وزنهما كيلوغرامًا واحدًا. جسدان هزيلان يختبئ فيهما صراع الحياة والموت، حتى كاد اليأس يخيّم على الأطباء والوالدين معًا، حين راحت برييل تتلاشى يومًا بعد يوم.

    في تلك اللحظة، جاءت فكرة الممرضة جيل كاسباران: لماذا لا نضع التوأم في سرير واحد؟ بدا الاقتراح خارجًا عن المألوف، بل كأنه تحدٍّ لقواعد المستشفى، لكنه كان في الحقيقة استدعاءً فطريًا لما يسبق القوانين والبرتوكولات: دفء القرب.

     حين اقتربت كيري من أختها، مدّت ذراعها الصغيرة، واحتضنتها كما لو أنها تقول: "لا تستسلمي، أنا معك." وهنا وقع ما يشبه الخلق من جديد: تنفس برييل عاد منتظمًا، نبض قلبها استقر، واللون الأزرق الذي كان يغطي جسدها انسحب شيئًا فشيئًا ليعود للحياة.

    انتشرت الصورة عبر العالم باسم "حضن المخلص"، لتصبح رمزًا خالدًا يتجاوز حدود الطب. لقد أظهرت هذه اللحظة أن الحب ليس عاطفة رومانسية تُحكى في القصص، ولا مجرد نزعة وجدانية، بل هو قوة مادية قادرة على إعادة الجسد إلى إيقاعه الطبيعي، وطاقة روحية تعيد الأمل إلى من فقده. منذ ذلك اليوم تغيّر الكثير في عالم رعاية الأطفال، إذ أُعيد الاعتبار لفكرة اللمس والاقتراب والتواصل الجسدي، فيما عُرف لاحقًا بطريقة "الكنغر"، التي أثبتت أن الحضن والدفء يعالجان حيث تفشل الأجهزة.

  ولكن الأعمق من كل ذلك أن القصة أعادت تعريف الحب في أبسط صوره: لمسة، عناق، حضور إنساني صامت يتجاوز اللغة والكلمات. لقد بيّنت أن الحب ليس فكرة فلسفية مجردة، بل غريزة أولى، لغة أسبق من الكلام، وقدرة على إنقاذ الآخر حين يبدو الهلاك حتميًا.

واليوم، بعد ثلاثة عقود، لا تزال قصة كيري وبرييل تروى كأنها أسطورة حديثة، شاهدة على أن الحب حين يتجسد في أبسط أشكاله، يمكن أن يهزم الموت ذاته.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية