بكين وواشنطن: تراجع الدولار وتصدع الأحادية الأميركية

 

بكين وواشنطن: تراجع الدولار وتصدع الأحادية الأميركية

عدنان الطائي

مقدمة: اجتماع بكين ورمزيات التحول العالمي

لم يكن الاجتماع الأخير في بكين، الذي جمع للمرة الأولى قادة الصين وروسيا وكوريا الشمالية في استعراض احتفالي–عسكري مشترك، مجرد مناسبة بروتوكولية؛ بل جاء كإشارة واضحة على تحولات جذرية في موازين القوى الدولية. هذا اللقاء حمل في طياته أكثر من رسالة:

1.  البُعد السياسي: تكريس صورة المحور الشرقي كقوة مناهضة للهيمنة الأميركية، بعد عقود من تفرد واشنطن بقيادة النظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

2.  البُعد الاقتصادي: تزايد محاولات تقليص نفوذ الدولار الأميركي في الاحتياطيات العالمية، وتوسع تكتل BRICS كمنصة للتبادل التجاري والمالي بعيدًا عن النظام الغربي.

3.  البُعد العسكري والأمني: استعراض القدرات النووية والتقليدية، في رسالة ردع مباشرة لواشنطن وحلفائها، تؤكد أن التفوق الأميركي لم يعد مطلقًا كما كان.

4.  البُعد الداخلي الأميركي: الاجتماع جاء في لحظة حساسة من تاريخ الولايات المتحدة نفسها، حيث تتفاقم أزماتها الداخلية (الاستقطاب السياسي، أزمة الديون، تصاعد الاحتجاجات)، وهي مؤشرات على أفول تدريجي للقطب الواحد.

غير أن هذا الاجتماع، برغم دلالاته، لا يمثل مشروعًا إنسانيًا بديلاً، بل هو رفض لنموذج العولمة الغربية المنفلتة أكثر من كونه طرحًا لرؤية جديدة للإنسانية. بكين تراهن على قيادة تدريجية للنظام العالمي عبر الاقتصاد والسياسة الناعمة، فيما تبقى روسيا منشغلة بتثبيت مكانتها بعد حرب أوكرانيا، وتلعب كوريا الشمالية دور "الورقة الضاغطة".

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تصور مغاير: ليس مجرد صراع بين شرق وغرب، ولا تنافس بين عولمة غربية مهترئة وعولمة شرقية صاعدة، بل مشروع جديد يتجاوزهما معًا — مشروع "الحداثة الرابعة" أو "العولمة المؤنسنة"، التي تجعل الإنسان مركز العملية التاريخية لا السوق ولا السلطة.

.1 التشخيص: تركة العولمة المنفلتة وأوهام القطب الأوحد

الحداثة الغربية، برغم إنجازاتها التحررية، وصلت إلى طريق مسدود. لقد تحول مشروعها الإنساني إلى آلة لخصخصة العالم، حيث تحولت الديمقراطية في ظلها إلى أداة لهيمنة السوق، وتحول العقل إلى عقل أداتي يخدم الربح فقط، وتفككت الهويات في بوتقة الاستهلاك. هذه هي "المرحلة الثالثة" أو "عولمة اللاقواعد" التي أنتجت:

  • شركات عابرة للقارات تفوق قوة العديد من الدول.
  • فردانية متوحشة تذوب التضامن الاجتماعي.
  • صراعات هوياتية (طائفية، عرقية) تُستغل لخدمة السوق.

التجمع في بكين يرفض هذا النموذج، لكنه يفتقر إلى بُعد إنساني حقيقي.

.2 الوضع الراهن: صراع العولمات والفخ الذي وقع فيه الجميع

المشهد اليوم ليس صراع "خير ضد شر"، بل هو "صدام عولمات" (Clash of Globalizations):

  • عولمة غربية مهترئة: ما زالت تحتفظ بالقدرات العسكرية والابتكار التكنولوجي، لكنها تعاني من تراجع الشرعية الأخلاقية والانقسامات الداخلية.
  • عولمة شرقية صاعدة: تقدّم نفسها كبديل مناهض للغرب، قائمة على سيادة الدولة والتنمية الاقتصادية، لكنها ترفض الحرية وتقمع الفرد تحت دعوى "التناغم". 

تأثير اجتماع بكين على الدولار والهيمنة الأميركية

اجتماع بكين لم يكن مجرد رسالة سياسية، بل يحمل انعكاسات اقتصادية ملموسة على النظام المالي العالمي:

1.  تراجع الدولار في الاحتياطيات العالمية:

o       بعض الدول، وخاصة أعضاء BRICS، بدأت تنويع احتياطياتها بالعملات المحلية أو الذهب لتقليل الاعتماد على الدولار.

o       الصين تسعى لترويج اليوان كعملة دولية بديلة، ما يضعف الهيمنة الأميركية على التجارة الدولية.

2.  تصدع الأحادية الاقتصادية الأميركية:

o       الولايات المتحدة لم تعد المرجع الاقتصادي الوحيد في تحديد أسعار الطاقة أو سلاسل الإنتاج.

o       توسع BRICS والاتفاقيات الاقتصادية الجديدة يحد من قدرة واشنطن على فرض العقوبات والسيطرة على الأسواق العالمية.

3.  أزمة الثقة الداخلية والخارجية:

o       الانقسامات السياسية، ارتفاع الديون، والاحتجاجات الداخلية تقلل من قدرة الحكومة الأميركية على الاستجابة للأزمات الاقتصادية العالمية.

o       المستثمرون الأجانب بدأوا يبحثون عن بدائل أكثر استقرارًا بعيدًا عن الدولار والسندات الأميركية.

المعالجة المحتملة من واشنطن:

  • تعزيز التحالفات العسكرية والاقتصادية التقليدية (الناتو، اتفاقيات تجارة حصرية) للحفاظ على النفوذ.
  • دعم الابتكار والتكنولوجيا لتعويض الخسائر في النفوذ المالي العالمي.
  • الضغط على الدول النامية للحفاظ على اعتمادها على الدولار، مع محاولة احتواء توسع BRICS والعملات البديلة.

الخلاصة: هذه المؤشرات الاقتصادية، إلى جانب الأزمات الداخلية، تؤكد أن الأحادية الأميركية في حالة تصدع تدريجي، وأن العالم يشهد صعود نموذج متعدد الأقطاب اقتصاديًا وسياسيًا، مما يجعل الحديث عن "الحداثة الرابعة" أو "العولمة المؤنسنة" أكثر إلحاحًا كبديل مستدام.

.3 الحل: ملامح "الحداثة الرابعة" – مشروع العولمة الإنسانية

الحداثة الرابعة ليست انتصارًا لمحور على آخر، بل هي قفزة نوعية إلى نموذج جديد تمامًا. إنها دعوة لـ "عولمة مؤنسنة" تقوم على أسس جوهرية:

  • العدالة الجذرية: إخضاع موارد العالم لخدمة الجميع، وليس لتعظيم أرباح قلة. دمج إيجابيات آليات السوق الرأسمالي (الكفاءة، الابتكار) مع الضمان الاجتماعي الاشتراكي (العدالة، التكافل).
  • احترام التعددية: لا إلغاء للهويات، بل احترامها وتمكينها في إطار الانتماء للإنسانية المشتركة. رفض تسييس الدين والهوية وتحويلهما إلى أداة صراع.
  • العلمانية المنضبطة: فصل الدين عن الدولة ليس لإلغاء الدين، بل لحماية المجال العام وضمان المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
  • حوكمة عالمية عادلة: تفكيك هيمنة الشركات العملاقة، وإخضاعها لمعايير إنسانية وبيئية. إصلاح مؤسسات الحوكمة العالمية (الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي) لتعكس تعددية القوى العالمي الجديد.

 

خاتمة: المعركة الفكرية هي الجبهة الأولى

التجمع في بكين والصراع الجيوسياسي الحالي هما مرحلة انتقالية فوضوية ستؤدي، بعد أزمات وتجارب، إلى ولادة نظام عالمي جديد. المعركة الحقيقية اليوم ليست عسكرية فقط، بل فكرية بالأساس. من سيحدد ملامح "ما بعد العولمة"؟

    دور المثقفين والمفكرين اليوم هو عدم الانجرار إلى خطاب المحاور الصراعي، بل العمل على بلورة البديل وبناء تحالفات فكرية عالمية تدفع نحو الحداثة الرابعة: الحداثة التي تضع الإنسان بكل تعقيداته وتناقضاته في قلب المشروع الحضاري الجديد. إنها رؤية طموحة، لكنها ضرورية للمستقبل، فالتاريخ يعلمنا أن كل فكرة عظيمة بدأت كحلم لمفكرين تجرأوا على تصوره في وقت كان فيه العالم غارقًا في صراعات الحاضر.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية