دراسة نقدية: الرأسمالية بين الأطروحة اليهودية والجذور الإنسانية

 

دراسة نقدية: الرأسمالية بين الأطروحة اليهودية والجذور الإنسانية

عدنان الطائي

المقدمة

  تُعد الرأسمالية أحد أعقد النظم الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها التاريخ البشري. وقد أثارت نشأتها جدلاً واسعاً بين المؤرخين والفلاسفة، فمنهم من يربطها بالتحولات الفكرية الكبرى في أوروبا الحديثة، ومنهم من يردّ جذورها إلى ممارسات تجارية ومالية أقدم. في كتابه اليهود والعالم والمال، قدّم جاك أتالي أطروحة مثيرة مفادها أن الرأسمالية وُلدت من رحم التجربة اليهودية في أوروبا، معتبراً أن اليهود هم المؤسسون الأوائل لها.
تهدف هذه الدراسة إلى نقد هذه الأطروحة، وتبيان أن الرأسمالية لم تكن نتاج اليهود حصراً، بل هي ثمرة تطور تاريخي عالمي متعدد الجذور.

أولاً: أطروحة جاك أتالي

يرى أتالي أن:

1.  اليهود، بسبب القيود المفروضة عليهم في أوروبا المسيحية (منع امتلاك الأرض والمناصب)، اتجهوا إلى التجارة والمال.

2.  شبكة الشتات اليهودي عبر أوروبا خلقت بنية مالية عابرة للحدود.

3.  ممارسات الربا والقروض التي قام بها اليهود أسست للقطاع المالي الحديث، وبالتالي للرأسمالية.

ثانياً: عناصر الصحة في أطروحة أتالي

  • لعب اليهود دوراً بارزاً في التمويل المصرفي خلال العصور الوسطى.
  • وجودهم كأقلية متنقلة سهّل بناء شبكات مالية متصلة بين الممالك الأوروبية.
  • ساهموا بالفعل في تطوير بعض الأدوات المالية، مثل القرض بفائدة وضمانات الرهن. 

ثالثاً: النقد التاريخي للأطروحة

1.  الرأسمالية أسبق من اليهود في التاريخ

o       الحضارات القديمة (بابل، مصر، اليونان، روما) مارست القروض والفوائد وأنماط التجارة قبل آلاف السنين.

o       وُجدت نصوص قانونية (مثل شريعة حمورابي) تنظّم العقود والفوائد منذ القرن 18 ق.م.¹

2.  الدور المسيحي والإصلاح الديني

o       مع الإصلاح البروتستانتي (لوثر، كالفن) تغيّرت نظرة المسيحية للربح والثروة.

o       ماكس فيبر اعتبر "الأخلاق البروتستانتية" الأرضية الفكرية للرأسمالية².

3.  الثورة الصناعية

o       انطلاق الرأسمالية الحديثة ارتبط بالثورة الصناعية في بريطانيا (القرن 18) وبالاختراعات التكنولوجية، لا بالتمويل اليهودي.

4.  مساهمة حضارات أخرى

o       البنوك الإيطالية (فينيسيا، فلورنسا) في القرنين 13–15 طوّرت الحسابات المزدوجة والائتمان التجاري³.

o       الهولنديون أسسوا أول بورصة للأوراق المالية (أمستردام، 1602).

o       بريطانيا أسست "بنك إنجلترا" (1694) كنموذج مؤسسي للرأسمالية الحديثة.

رابعاً: الرأسمالية بين النظرية والتطبيق

  • آدم سميث (1723–1790) صاغ النظرية الشاملة للرأسمالية بكتاب ثروة الأمم (1776)، مؤطراً:
    • السوق الحرة.
    • الملكية الخاصة.
    • تراكم رأس المال.
    • تقسيم العمل.
  • الرأسمالية ليست مجرد نشاط مالي (قروض أو ربا)، بل نظام اقتصادي اجتماعي متكامل.

خامساً: التقييم النقدي

  • أطروحة أتالي صحيحة جزئياً من حيث إبراز دور اليهود في التمويل.
  • لكنها مبالغ فيها حين تختزل الرأسمالية في تجربة جماعة دينية واحدة.
  • الرأسمالية في حقيقتها نظام تراكمي إنساني ساهمت فيه حضارات وشعوب متعددة.

الخاتمة

الرأسمالية لم تبدأ بظهور اليهود، ولم تكن نتاجهم وحدهم، بل هي ثمرة تفاعلات اقتصادية وفكرية وتقنية ممتدة من الحضارات القديمة حتى أوروبا الحديثة. إن اختزال جاك أتالي لهذه الظاهرة المعقدة في "الرأسمالية اليهودية" يمثل قراءة انتقائية للتاريخ، تخدم خطاباً أكثر مما تخدم الحقيقة العلمية. والإنصاف يقتضي النظر إلى الرأسمالية باعتبارها نتاج البشرية جمعاء.

المراجع

1.  شريعة حمورابي، الألواح البابلية (القرن 18 ق.م).

2.  Max Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, 1905.

3.  Fernand Braudel, Civilization and Capitalism (15th–18th Century), 1981.

4.  Jonathan Israel, The Dutch Republic: Its Rise, Greatness, and Fall, 1477–1806, 1995.

5.  Adam Smith, The Wealth of Nations, 1776.

6.  Jacques Attali, Les Juifs, le monde et l'argent, 2002.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية