الاكتشاف… والأرض بلا شعب

 

الاكتشاف… والأرض بلا شعب

عدنان الطائي

 كيف يمكن أن تقول إنك "اكتشفت" أرضًا يسكنها بشر؟! بالمنطق نفسه أستطيع أن آخذ سيارة غيري وأقول: لم أسرقها.. او اتخيل أنني دخلت إلى بيتك فجأة، جلست في الصالة، ثم قلت لك بابتسامة عريضة: "لقد اكتشفت بيتًا جديدًا!"… هل سيقنعك كلامي أنني لست سارقًا؟

   هذا بالضبط ما فعله المستعمرون الأوروبيون في أميركا. وجدوا أرضًا يسكنها ملايين البشر منذ آلاف السنين، لكنهم وصفوها بأنها "مكتشفة". كلمة صغيرة، لكنها كانت كافية لتمنحهم شرعية مزيفة وتحوّل أصحاب الأرض الأصليين – الهنود الحمر – إلى غرباء في وطنهم. ومن هناك جاءت القوانين التي حصرت حقهم في "الإشغال" فقط، بينما الأرض كلها صارت ملكًا للوافد الجديد. وبكلمة واحدة مُسحت حقوقهم، وحُشروا في محميات، بينما قُدم الغزو وكأنه "حضارة".

   وفي فلسطين، تغيّر الشعار لكن الفكرة بقيت هي نفسها، إنها اللعبة ذاتها: سرقة تبدأ باللغة وتنتهي بالاستيطان، لم يقولوا "اكتشفناها"، بل أطلقوا العبارة الشهيرة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فجأة، تحوّل ملايين الفلسطينيين إلى أشباح لا تُرى. الأرض نفسها أُعيد تعريفها: ليست لأهلها الذين عاشوا عليها جيلاً بعد جيل، بل لمن جاءوا من وراء البحار محمّلين بوعود دينية وسياسية. إنها الخطة الاستعمارية القديمة ذاتها: تبدأ بسرقة الكلمة قبل أن تنتهي بسرقة الأرض. فحين تُمحى هوية أصحاب المكان من المعجم، يصبح نفيهم من الواقع مسألة وقت. والأدهى أن هذه السرديات الاستعمارية تُقدَّم دائمًا بغطاء أخلاقي:

إنها اللعبة ذاتها: سرقة تبدأ باللغة وتنتهي بالاستيطان

  • في أميركا: "ننشر الحضارة والتقدم".
  • في فلسطين: "نحقق حلم العودة إلى أرض الميعاد".

لكن خلف الأقنعة تبقى الحقيقة واحدة: هناك مالك للأرض جرى إنكاره، وهناك لص يرفع لافتة الفضيلة ليبرر سرقته. إذن، لعل السؤال الأهم اليوم: كم مرة سيُعاد تكرار لعبة "الاكتشاف" و"الأرض بلا شعب" قبل أن يدرك العالم أن الأرض لا تُكتشف… بل تُسرق؟

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية