الحلقة المفقودة في الكتابة: حيرة كاتب أمام ذاته

 

الحلقة المفقودة في الكتابة: حيرة كاتب أمام ذاته

عدنان الطائي

المدخل

    كثيراً ما يُظن أن الكاتب، لمجرد أنه يملأ الصفحات بالحكايات، قد كشف عن أعماقه وصار على وفاق مع ذاته. غير أن الواقع يثبت أن بعض المبدعين يكتبون كثيراً، ومع ذلك يظلون في حيرة، يطاردهم شعور غامض بأن وراء كلماتهم شيئاً مفقوداً، سراً يختبئ بين السطور ولا يُمسك به بسهولة. هذه الإشكالية ليست مجرد أزمة نفسية عابرة، بل هي سؤال فلسفي عن معنى الكتابة وحدودها: هل هي وسيلة للبوح أم للهروب؟

العرض

   يحكي النص عن كاتب بارع أغرق نفسه في القصص والروايات، لكنه كلما حاول أن يكتب شيئاً جديداً، يشعر بأن ما يكتبه ليس صادقاً، فيمزق الورقة صارخاً: "كذب وخداع". هنا تتجلى الحيرة الوجودية التي يعاني منها كثير من الكتّاب، حين يدركون أن الكلمات ليست سوى قشرة، تخفي وراءها جرحاً لم يُكتب بعد.

ينصحه صديق بزيارة طبيب نفسي، وهناك يبدأ حوار آخر، ليس بين الكاتب والطبيب فحسب، بل بين الكاتب ونفسه. الطبيب يستمع بانبهار، يقرأ بعض مؤلفاته، ثم يطلق حكمه: "أنت كاتب بارع، لكن هناك حلقة مفقودة في قصصك". وحين يسأله الكاتب ما هي تلك الحلقة، يجيبه الطبيب: "لا أعلم، ابحث عنها في ذاتك".

هذا المقطع يكشف عن زاوية فلسفية مهمة: الكتابة ليست مجرد نقل تجربة، بل هي بحث عن الذات الضائعة. الطبيب، بوصفه قارئاً ناقداً، لم يجد الجواب، لأنه لا يستطيع أن يكشف للكاتب سوى مرآة نفسه. وكما قال سارتر: "الكاتب الحقيقي هو الذي يكشف نفسه حين يظن أنه يصف الآخرين".

الحلقة المفقودة التي أشار إليها الطبيب ليست سوى تلك المسافة بين ما نكتب وما نخفي، بين الظاهر في النصوص والمقموع في الأعماق. وربما يكمن الإبداع الحقيقي في لحظة مواجهة هذه الهوة والكتابة منها، لا عنها. وكما عبر كافكا: "الكتابة نفق نحو الذات، لكننا كثيراً ما نتوه فيه قبل أن نصل".

الخاتمة

    القصة إذن ليست حكاية عن مرض أو عجز، بل عن سؤال أبدي يلاحق كل مبدع: أين تكمن الحقيقة فيما نكتب؟ هل في الكلمات التي نخطها، أم في الصمت الذي يبتلع ما لم نستطع قوله؟ إن الكاتب خرج حائراً من عيادة الطبيب، لكنه في حقيقته اقترب خطوة من الجواب حين أدرك أن الحلقة المفقودة ليست في نصوصه ولا في قرّائه، بل في ذاته هو.

وكما يقول نيتشه: "من لم ينظر في أعماق نفسه، يظل غريباً حتى عن أجمل ما يبدعه".
وهكذا تظل الكتابة رحلة دائمة بين الكلمة والصمت، بين البوح والكتمان، رحلة لا نهاية لها، لكنها وحدها القادرة على جعل الإنسان أقرب إلى نفسه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية