انكسار المشروع الديني وصعود الحكم المدني في العراق وإيران

 

انكسار المشروع الديني وصعود الحكم المدني في العراق وإيران

بقلم عدنان الطائس

تمهيد

في ظل تحولات كبرى يشهدها الشرق الأوسط، يبدو أن مرحلة الهيمنة الطائفية على شطري العراق وإيران بدأت تتهاوى أمام ضغوط الداخل والخارج. شعوبٌ تعبّت من الفساد والاستبداد، ودولٌ إقليمية تسعى إلى بناء مستقبل أكثر براغماتية، وأخرى دولية تضغط لإعادة ترتيب التحالفات. في هذا السياق، يظهر "الشرق الأوسط الجديد" ليس كمشروع نظري، بل كمسار واقعي يهدف إلى انكسار المشروع الديني وصعود الحكم المدني، خطوة بخطوة، نحو منطقة أكثر استقرارًا وعدالةً، حيث المواطن فوق الانتماء الطائفي، والسياسة تخدم الشعب لا الأيديولوجيا.

أولًا: جذور المشروع الديني

بعد الثورة الإيرانية عام 1979، رسخت طهران مفهوم "ولاية الفقيه" بوصفها صيغة لدمج السلطة السياسية بالشرعية الدينية، وحاولت تصدير هذا النموذج إلى المنطقة، فدعمت حركات الإسلام السياسي في لبنان، اليمن، سوريا والعراق. في المقابل، جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ليُسقط نظام البعث، ويترك الساحة فارغة أمام الأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران. بذلك التقت مصلحة "التبشير الثوري الإيراني" مع فراغ السلطة في العراق، فظهرت مليشيات مسلحة وطبقة سياسية مذهبية، استبدلت "الطغيان الفردي" بـ "الهيمنة الطائفية".

ثانيًا: فشل المشروع الديني

مع مرور عقدين من الزمن، انكشف العجز البنيوي للمشروع الديني، سواء في إيران أو العراق:

  • في إيران، الأزمة الاقتصادية الخانقة، الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وانفصال الأجيال الجديدة عن خطاب الملالي.
  • في العراق، الفساد المستشري، عجز الخدمات، فقدان السيادة أمام الميليشيات، ورفض الشارع للاصطفاف الطائفي كما ظهر في انتفاضة تشرين 2019.

هذه الأزمات لم تبرهن فقط على فشل إدارة الدولة بالدين، بل كشفت أن الشعوب باتت ترى في الدين شأنًا شخصيًا لا يصلح أساسًا للحكم.

ثالثًا: ملامح الشرق الأوسط الجديد

تزامن انهيار المشروع الديني مع تغيرات إقليمية ودولية:

  • الولايات المتحدة تسعى إلى شرق أوسط جديد يدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية ويعيد ترتيب التحالفات بعيدًا عن الصراعات العقائدية.
  • دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، تتجه إلى البراغماتية بدل الأيديولوجيا، مركزة على الاقتصاد والاستثمار.
  • العراق وإيران يقفان اليوم أمام استحقاق تاريخي: إما الانخراط في هذا التحول، أو مواجهة عزلة دولية وعقوبات متصاعدة.

رابعًا: نحو حكم مدني

المسار المرجح في المرحلة المقبلة يتمثل في:

1.  إضعاف النفوذ المليشياوي عبر محاسبة قادته وفتح ملفات الفساد.

2.  تغيير النخب السياسية مع الإبقاء على الشكل الديمقراطي للنظام، أي تداول سلمي للسلطة، ولكن بوجوه جديدة.

3.  تعزيز الهوية الوطنية على حساب الطائفية، لتجنب انقسامات الماضي.

4.  فتح المجال للتنمية الاقتصادية عبر شراكات إقليمية ودولية تضع مصلحة المواطن فوق الشعارات الأيديولوجية.

خامسًا: الرؤية المستقبلية

1.  إيران
تحت ضغط الخارج وغليان الداخل، سيُدفَع النظام تدريجيًا للتنازل عن سلطته المطلقة لرجال الدين، وإتاحة المجال أمام التيارات القومية والمدنية. التغيير قد لا يكون ثورة سريعة، بل تفكيكًا تراكميًا للهيمنة الطائفية.

2.  العراق
سيبقى ساحة اختبار: هل يمكن بناء حكم مدني ضمن النظام الديمقراطي الحالي؟ الاحتمال الأقرب هو إصلاح تدريجي عبر انتخابات أكثر نزاهة، تقليص نفوذ الميليشيات، وإعادة الاعتبار للهوية الوطنية العراقية.

3.  المنطقة
القضية الفلسطينية ستُعاد صياغتها في إطار "تسوية واقعية" أكثر من كونها "تحريرًا شاملًا". وستُبنى علاقات عربية–إسرائيلية على أسس اقتصادية–أمنية مشتركة، فيما يُدفع العراق وإيران للحاق بالركب ولو متأخرَين.

سادسًا: التحديات المقبلة

  • المقاومة الداخلية: الطبقات القديمة والميليشيات قد ترفض التفكيك أو محاسبة رموزها.
  • التوازن الإقليمي: أي تحرك مدني سريع قد يواجه ضغطًا إيرانيًا أو تدخلًا خارجيًا غير مباشر.
  • الضغط الشعبي: الشعب العراقي والإيراني قد يطالب بسرعة الإصلاح، مما يخلق فجوة بين الواقع السياسي والإمكانات العملية للتغيير.
  • الاستقرار الأمني: إزالة الهيمنة الميليشياوية دون بديل مدني قوي قد يؤدي لفوضى أو فراغ أمني.

خاتمة

   الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة عنوانها: كسر هيمنة المشاريع الدينية وصعود الحكم المدني البراغماتي. لكن هذا التحول لن ينجح ما لم يتحول من مشروع خارجي إلى إرادة داخلية تتبناه الشعوب. فالتغيير المستدام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالإرادة الوطنية، عبر شعوب واعية تقرر أن زمن الاستغلال الطائفي قد انتهى.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية