التناص ما بين إيجابياته وسلبياته

 

التناص ما بين إيجابياته وسلبياته

عدنان الطائي

التناص: نص يولد من رحم نصوص أخرى

   الأدب ليس كيانًا مغلقًا، بل هو نهر متجدد تصب فيه روافد النصوص السابقة، فيغتني من ماضيه ويُعيد تشكيله بروح الحاضر. من هنا جاء مفهوم التناص الذي شكّل علامة فارقة في النقد الأدبي الحديث، إذ يكشف عن العلاقات الخفية والظاهرة بين النصوص، ويؤكد أن لا نص يولد من فراغ، بل كل كتابة هي حوار مع كتابة أخرى. غير أن هذا الحوار، وإن بدا مثريًا، لا يخلو من إشكالات تحتاج إلى قراءة متأنية. فالتناص ليس مجرّد مصطلح نقدي، بل فضاء واسع تتقاطع فيه النصوص، وتتحاور الأصوات، ويتجدّد المعنى. إنّه حالة من الأخذ والعطاء بين الكاتب وموروثه الثقافي، بين ما يُقرأ وما يُكتب، بين الذات الفردية وذاكرة الجماعة.

من عنترة إلى أبي هلال العسكري: جدل السرقات والتجديد

    لم يكن التناص غريبًا عن الشعر العربي القديم؛ فقد عبّر عنه الشعراء بأساليبهم، كما نرى عند عنترة بن شداد في مطلع معلقته حين أقرّ بأن الشعراء الذين سبقوه قد طرقوا معظم الأبواب، لكنه سيعيد القول بطريقته الخاصة. وقد احتدم الجدل قديمًا حول السرقات الشعرية، حتى جاء أبو هلال العسكري ليضع حدًا فاصلاً بين التشابه الطبيعي الذي لا يُنقص من الإبداع، وبين النقل الحرفي الذي يطمس هوية النص.

التناص كجسر للحوار الثقافي

- يُغني النصوص ويُبرز ثقافة الكاتب وسعة اطلاعه.

- يكشف عن قدرة المبدع على إعادة تشكيل المعاني القديمة بروح جديدة.

- يربط النصوص ببعضها في حوارٍ مستمر، فيجعل الأدب كيانًا حيًا متجددًا.

- يحرّر النص من الانغلاق ويجعله منفتحًا على أفق حضاري وثقافي واسع.

وهذا هو أجواء التناص الإيجابي، اذ يمنح النص حياة ثانية، ويجعله غنيًّا بالمعاني والإشارات. من خلاله يستحضر الكاتب التاريخ والأسطورة والفلسفة والدين ليبني نصًا جديدًا يفتح آفاق القارئ. فهو ليس تكرارًا، بل إعادة إنتاج للمعنى في سياق مختلف، يربط الماضي بالحاضر، ويجعل الأدب أكثر تداخلاً وإنسانية.

حين يتحوّل التناص إلى عبء على الإبداع

وهذا هو أجواء التناص السلبية، وهو الوجه الآخر للتناص ، اذ يكشف عن مخاطر. فقد يتحول إلى تكرار ممل أو اعتماد على الغير من دون إبداع، بل يصل أحيانًا إلى الاتهام بالسرقة الأدبية. هنا يظهر التناص السلبي الذي يُفقد النص استقلاليته، ويجعل القارئ يشعر أنه أمام صدى لا أمام صوت أصيل.

التناص بين الضرورة والإبداع

   يبقى التناص ساحة مفتوحة بين الإيجابيات والسلبيات، بين الغنى والالتباس. فهو مرآة لقدرة الأدب على التجدد عبر العصور، وفي الوقت نفسه اختبار لوعي الكاتب ومسؤوليته الإبداعية. وإذا كان التناص ضرورة لا مفر منها، فإن قيمته الحقيقية تتجلّى في قدرة المبدع على تحويل الموروث إلى تجربة أدبية أصيلة تحمل بصمته الخاصة وتمنح النص وهجه المتفرّد.

    اما التناص غير الواعي وإشكالية النقد. قد يتسرّب إلى النص ما قرأه الكاتب في مراحل سابقة دون قصد منه، وهو ما يُعرف بالتناص غير الواعي. وهنا يثور سؤال جوهري: هل يُحاسب الكاتب على ما تسرب إلى نصه من ذاكرته القرائية؟ في النقد الأدبي، يُنظر إلى ذلك على أنّه تفاعل طبيعي مع الثقافة، لا سرقة. أما في أنظمة الحماية الفكرية، فالمحاسبة تكون على الانتحال الواعي والمنهجي لا على التداخل العفوي. وهكذا يظل التناص غير الواعي منطقة رمادية بين الإبداع والتقليد، يثير جدلاً لا ينتهي بين النقاد والقانونيين.

خاتمة

   التناص في جوهره فنّ للحوار بين النصوص، لكنه كسلاح ذي حدّين: إمّا أن يغني التجربة الأدبية ويدفعها نحو التجديد، أو يقيّدها في دائرة التكرار وفقدان الأصالة. وبين هذا وذاك، يظل التناص علامة على أن الكتابة فعل إنساني ممتد، لا ينفصل فيه الكاتب عن ذاكرة قراءاته ولا عن صوت من سبقوه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية