الوطنية مشروع حياة لا مجرد انتماء
الوطنية مشروع حياة لا مجرد انتماء
عدنان الطائي
الوطنية ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، ولا كلمة تُقال في الخطب، بل هي مشروع حياة متكامل يعيشه الفرد في تفاصيل يومه، ويترجمه سلوكًا عمليًا تجاه وطنه ومجتمعه. إنها الرابط العميق الذي يجمع الإنسان بأرضه وتاريخه وهويته، ويمنحه دافعًا لبناء مستقبل مشترك.
الوطنية شعور عام يقوم على الاعتزاز بالوطن والحرص على خدمته والدفاع عنه. فهي انتماء يربط الفرد بجذوره، ويعزز لديه الإحساس بالمسؤولية تجاه وطنه وأبنائه. أما الوطنية السياسية، فتتجلى في المشاركة الفاعلة بالحياة العامة، واحترام القانون، والدفاع عن استقلال الدولة وسيادتها. فهي ليست ولاءً أعمى، بل التزام ببناء دولة عادلة وقوية. وتأخذ الوطنية بُعدًا ثقافيًا أيضًا، إذ تقوم على الاعتزاز باللغة الأم، وصون التراث والعادات الأصيلة، مع الانفتاح على التطور والحداثة بما يخدم المجتمع ويطور هويته. وفي بعدها الاقتصادي والاجتماعي، تُترجم الوطنية إلى دعم للاقتصاد الوطني، والعمل من أجل التنمية المستدامة، والتضامن مع أبناء الوطن لتحقيق العدالة والرفاه للجميع. ولا تكتمل الوطنية من دون بعدها الأخلاقي والإنساني، القائم على احترام القيم، والمساواة، وكرامة الإنسان، إذ لا معنى لوطنية تُقصي أو تُميز بين أبنائها. إن الوطنية الإيجابية هي التي تبني، تُوحد، وتفتح آفاق المستقبل، بينما تتحول الوطنية السلبية إلى تعصب وانغلاق وشعارات جوفاء.
وان الوطنية في زمن الهجرة قد يضطر الإنسان، تحت وطأة القهر السياسي أو ضيق العيش أو انسداد الأفق، إلى مغادرة وطنه. الهجرة في هذه الحال ليست خيانة، بل جرح عميق في الروح، يترك أثره في القلب قبل أن يتركه في الأرض. إنها صرخة صامتة تقول إن الوطن لم يمنح أبناءه ما يستحقون من عدل وأمان وكرامة. لكن المهاجر الوطني يظل وفيًا لوطنه مهما ابتعد، يحمل لغته كأغنية في قلبه، وثقافته كهوية لا تمحى، ويُسهم بما يستطيع في قضاياه من بعيد. وهو يرى في اغترابه فرصة ليكتسب معرفة وتجربة، يعود بهما يومًا ليُضمد جراح وطنه. أما من يذوب تمامًا في حضارة أخرى، فينسى جذوره ويتنكر لتاريخه، فإنه لا يخسر وطنه فحسب، بل يخسر ذاته أيضًا. فالوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل ذاكرة تسكن فينا، كلما ابتعدنا عنها ازدادت اقترابًا من وجداننا. إن الوطنية الحقة في زمن الهجرة تعني أن نكون جسورًا بين أوطاننا وأوطان الآخرين، نحترم من يحتضننا، ونعترف بجميله، لكننا لا نقطع خيط الحنين والانتماء. فالوطن وإن أبعدنا عنه القدر، يبقى البيت الأول الذي لا يُغلق بابه أبدًا.
اذن الوطنية مشروع حياة لأنها تتجاوز حدود العاطفة لتصبح ممارسة يومية، تبدأ بالانتماء المسؤول، وتستمر بالعمل من أجل رفعة الوطن وكرامة مواطنيه، ليبقى الوطن بيتًا يحتضن الجميع ويليق بهم. فالوطنية لا تُقاس بما نقوله عن الوطن، بل بما نقدمه له من حبٍ وعملٍ وتضحية، فهي مشروع حياة نزرع فيه اليوم لنحصد غدًا وطنًا يليق بأبنائه."
تعليقات
إرسال تعليق