الغدر السياسي في تاريخ العرب: من القلعة إلى الدرعية والى بغداد

 

الغدر السياسي في تاريخ العرب: من القلعة إلى الدرعية والى بغداد

المذابح السياسية في تاريخنا: حين يتحوّل الغدر إلى أداة للسلطة

مقدمة

    من يقرأ تاريخ العرب والمسلمين لا يسعه إلا أن يتوقف أمام مشاهد متكررة من الغدر السياسي والمذابح الجماعية التي ارتكبها الحكام بحق خصومهم. وهنا يبرز السؤال المؤلم: هل كان هذا السلوك جزءًا من ثقافة الحكم عند العرب المسلمين، أم أنه مجرد انعكاس لصراع السلطة الذي لا يرحم؟ إن الغدر، في جوهره، يتعارض مع القيم العربية الأصيلة التي طالما افتخرت بالوفاء والنجدة، كما يتناقض مع التعاليم الإسلامية التي شددت على العهد والميثاق. ومع ذلك، نرى في تاريخنا ممارسات سياسية اتخذت الغدر وسيلة لإزاحة الخصوم وتثبيت السلطة، حتى صارت المذبحة أحيانًا تُبرَّر بوصفها "مصلحة عليا".  ميكافيللي السلوك: الغاية تبرر الوسيلة.

مذبحة القلعة (مصر – 1811م)

   في عهد محمد علي باشا، كانت قوة المماليك تهدد طموحه في بناء دولته الحديثة. لجأ إلى حيلة بارعة، إذ دعا قادتهم إلى قلعة صلاح الدين بحجة الاحتفال بخروج ابنه طوسون باشا لمحاربة الوهابيين في الحزيرة العربية. وبينما هم ينزلون من الممر الضيق، أُغلق الباب خلفهم، وأمطرتهم البنادق من الأعلى. قُتل معظم المماليك في ساعات قليلة، ولم ينجُ إلا القليل. بهذا المشهد الدموي، قضى محمد علي على خصومه، ورسّخ سلطته المطلقة في مصر.

سقوط الدرعية ومذبحة الوهابيين (الجزيرة العربية – 1818م)

    بعد سنوات من القتال بين قوات محمد علي والدعوة الوهابية بقيادة آل سعود، تمكن إبراهيم باشا من دخول الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى. هناك جرت عمليات قتل واسعة النطاق، وأُحرقت البيوت ودُمرت المعالم. اعتُقل كثير من رجال آل سعود وأنصارهم، وأُرسل بعضهم إلى إسطنبول حيث أُعدموا. أراد العثمانيون ومحمد علي بهذا العمل القضاء على الدعوة الجديدة، اذ اعتبرت الدولة العثمانية توسع الدولة السعودية تهديدًا لمكانتها في العالم الإسلامي، وخاصة بعد سيطرتها على الحرمين الشريفي لكن الفكرة لم تمت، بل عادت في الدولة السعودية الثانية ثم الثالثة.

لمحات من العراق: تاريخ مكرر (رواية علي الوردي)

في موسوعته لمحات من تاريخ العراق الحديث، يصف علي الوردي كيف تكررت هذه الأساليب في بلاد الرافدين.

  • كان بعض الولاة العثمانيين يدعون زعماء القبائل إلى "الصلح"، ثم يغدرون بهم ويقتلونهم.
  • وفي صراع الباشوات والمماليك في بغداد، كان الغدر وليمةً أو وعدًا بالأمان ينتهي بمذبحة.
    الوردي يرى أن هذه الممارسات تكشف عن "منطق القوة في المجتمع التقليدي"، حيث يُشرعن الغدر ويُقدَّم على أنه الوسيلة الأنجع لحكم بلد مضطرب.

الخيط المشترك

رغم تباعد الأمكنة: القاهرة، الدرعية، بغداد… إلا أن النمط واحد:

  • السلطة تخشى خصومها.
  • الخصوم يُستدرجون باسم الصلح أو الاحتفال.
  • ثم يواجهون الموت الجماعي بلا رحمة.

هذا يعكس عقلية سياسية ترى أن الغدر أسرع الطرق لتثبيت الحكم، حتى لو كان الثمن دماء المئات وتاريخًا مثقلاً بالخيانات.

 

امتداد الظاهرة في عصرنا: ممارسات داعش

لم يتوقف مسلسل المذابح عند حدود التاريخ، بل وجدنا له امتدادًا في عصرنا الحديث مع ظهور تنظيم "داعش". فقد جسّد هذا التنظيم أبشع صور الغدر والعنف باسم الدين، فمارس قطع الرؤوس، والحرق العلني، والتصفية الجماعية، مستهدفًا خصومه وحتى من يخالفونه في المذهب أو الرأي.

وما يلفت النظر أن الأسلوب لم يختلف كثيرًا عن ممارسات الحكام في الماضي:

  • الاستدراج والخديعة تحت شعار الدين أو "البيعة".
  • القتل الجماعي بلا رحمة لإرهاب المجتمع وإثبات السيطرة.
  • تبرير الغدر بالمصلحة العليا، لكن هذه المرة بلغة "الخلافة" والشريعة.

إن ما قامت به داعش ليس حدثًا معزولًا، بل امتداد لثقافة الغدر السياسي التي تجذرت عبر قرون، حيث صار العنف وسيلة لإثبات الشرعية بدلًا من الحوار أو التوافق.

خاتمة

  إن تكرار هذه المذابح عبر القرون – من القلعة إلى الدرعية وبغداد، وصولًا إلى داعش في عصرنا – يضعنا أمام حقيقة مؤلمة: أن ثقافة الغدر والعنف لم تُستأصل من مجتمعاتنا، بل تعود بأشكال مختلفة كلما ضعفت مؤسسات الدولة وتغلب منطق القوة على منطق القيم كما حصل في قتل التشرينيون بدم بارد في العراق من قبل الإسلام السياسي.. التاريخ هنا يعلّمنا أن الغدر قد يمنح النصر لحظةً عابرة، لكنه يترك في ذاكرة الأمة جرحًا لا يندمل، ويديم دائرة الدم والخذلان جيلاً بعد جيل.

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية