خرافة محمد المسيحي… بين وهم الإعلام وحقيقة التاريخ

 

خرافة محمد المسيحي… بين وهم الإعلام وحقيقة التاريخ

بقلم عدنان الطائي

   تتكرر بين الحين والآخر أصوات عبر الإعلام أو مواقع التواصل، تروّج لفكرة أن النبي محمد ﷺ كان مسيحيًا في الأصل، ثم انشق عن المسيحية وأسس دينًا جديدًا. من أبرز هؤلاء مصطفى راشد المقيم في أستراليا، الذي يقدّم نفسه على أنه "باحث" في الأديان. وكذلك ظهر مؤخرًا فيديو يروّج للفكرة نفسها. لكن عند التدقيق، يتبيّن أن مثل هذا الطرح لا يقوم على أي حقائق تاريخية، بل على خلط متعمد يهدف إلى التشويه والتسقيط.

أولًا: محمد والحنفية الإبراهيمية

    جميع المصادر الإسلامية وغير الإسلامية تجمع على أن النبي محمد ﷺ لم يكن يعتنق اليهودية أو المسيحية، بل كان على الحنيفية، وهي البقايا الموحدة من ملة إبراهيم عليه السلام. وقد عُرف عدد من الحنفاء في مكة قبل البعثة، مثل ورقة بن نوفل، الذي لم يكن مسيحيًا بالمعنى الكنسي، بل كان حنيفًا موحدًا باحثًا عن الحق.

ثانيًا: قصة الراهب بحيرا

    كثيرًا ما يُستشهد بقصة لقاء النبي ﷺ بالراهب بحيرا في بصرى الشام. لكن هذه القصة محل جدل كبير بين المؤرخين، حتى أن طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى أشار إلى أن بحيرا وغيره كانوا جزءًا من نشاط تبشيري مسيحي في الجزيرة العربية. غير أن هذه القصة لا تعني بحال أن محمدًا كان تابعًا للمسيحية، بل تبيّن أن البيئة الدينية في الجزيرة كانت مفتوحة على التأثيرات الخارجية، من يهودية ونصرانية وحنفية.

ثالثًا: إشاعة التبشير المسيحي

  المسيحية في ذلك الزمن لم تكن ديانة موحّدة العقيدة؛ بل انقسمت بين مذاهب شتى (نسطورية، آريوسية، سريانية...) وكانت تحاول التوسع في الجزيرة عبر التبشير. ومن مظاهر ذلك وجود "الحانات" التي كانت وسيلة لجذب الناس عبر الخمر واللهو، ثم تقديم أفكار دينية على الهامش. لكن هذه الأجواء لم تجعل محمداً مسيحيًا، بل زادته رفضًا للوثنية والانحراف.

رابعًا: النسب الإبراهيمي للنبي محمد ﷺ

  الأمر الأهم الذي يُفند هذه المزاعم هو أن نسب النبي محمد ﷺ متصل بإبراهيم الخليل عليه السلام عن طريق ابنه إسماعيل. فمحمد بن عبد الله ينتمي إلى قريش العدنانية، التي تعود إلى عدنان من ذرية إسماعيل. وقد أجمع العرب على هذا النسب، وأقرّه أهل الكتاب أيضًا. بل إن التوراة نفسها تشير إلى أن إسماعيل سكن في "برية فاران" (التكوين 21:21)، أي مكة المكرمة. وقد ورد في الحديث الصحيح: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم» (رواه مسلم). وهذا النص يثبت أن محمدًا ﷺ لم يكن مسيحيًا منشقًا، بل نبيًا من نسل إبراهيم، جاء بالرسالة الخاتمة امتدادًا للتوحيد الإبراهيمي.

خامسًا: الإعلام بين الحقيقة والتسقيط

    الخطاب الإعلامي الذي يروّج لفكرة أن محمدًا كان مسيحيًا لا يستند إلى منهج أكاديمي أو دلائل موثقة، بل إلى الإثارة والتشويه. هو خطاب "تسقيطي" يسعى إلى ضرب مصداقية التاريخ الإسلامي عبر نسب أصوله إلى ديانة أخرى. لكن الحقيقة أن الإسلام جاء امتدادًا للتوحيد الإبراهيمي، لا انشقاقًا عن المسيحية.

خاتمة

   إن قراءة موضوعية للتاريخ تكشف أن دعوى "محمد كان مسيحيًا" ليست إلا وهمًا إعلاميًا فارغًا. فالنبي ﷺ وُلد في بيئة متعددة الأديان، لكنه اختار طريق التوحيد الخالص، على خطى إبراهيم الخليل، حتى جاءه الوحي بالرسالة الخاتمة. والتاريخ المنصف لا يحتاج إلى تزييف أو خلط، بل إلى عرض الحقائق كما هي بعيدًا عن التسقيط والدعاية.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية