الغربال السقراطي… بوصلة العقل في صراع الاثنينية البشرية
الغربال السقراطي… بوصلة العقل في صراع الاثنينية البشرية
عدنان الطائي
في حوار سقراط عن "الغربال الثلاثي"، تبدو الحكمة بسيطة وعميقة في آن: لا تقل إلا ما هو صحيح، وما هو خير، وما هو نافع. ولو تأملنا هذا المعيار الأخلاقي، لظننا أن سقراط كان يخاطب كائنًا ملائكيًا خالصًا، يميل دومًا إلى الحق والخير. غير أن الواقع يشي بشيء آخر: الإنسان لم يُخلق كائنًا أحاديّ الطبيعة، بل هو منذ البدء كائن ثنائي، يتأرجح بين النور والظلام، بين الحقيقة والوهم، بين الخير والشر. هذه الثنائية ليست عرضًا طارئًا، بل جوهر في تكوين الإنسان. فمن دونها ما كان للحرية معنى، ولا كان للاختيار قيمة. إنما يُدرك الصدق بوجود الكذب، ويُعرَف النور بوجود العتمة، وتُختبر الفضيلة في حضرة الرذيلة. إن الصراع بين الأضداد هو الذي يمنح حياتنا معنى ويجعل من وجودنا ساحة امتحان.
وهنا يظهر المغزى الأعمق من حكمة سقراط: الغربال ليس إنكارًا لهذه الاثنينية، ولا محاولة لإلغائها، بل هو بوصلة تُرشدنا في خضم التناقضات. فالإنسان قد ينجذب إلى الغيبة أو الكذب لأنها الطريق الأسهل، لكن العقل الواعي يستطيع أن يوقفه عند عتبة الغربال، يسأله: هل هذا الكلام صحيح؟ هل فيه خير؟ هل فيه نفع؟ فإذا لم يجد جوابًا، أدرك أنه يساهم في زيادة ثِقَل الظلام لا في تخفيفه.
إذن، الغربال السقراطي ليس مثالية زائفة، بل هو فن تهذيب للطبيعة البشرية. هو محاولة لرفع الإنسان من مستوى الاستسلام لغرائزه المتناقضة إلى مستوى الوعي والاختيار. فما يجعل الإنسان إنسانًا ليس كونه ينجو من الثنائية، بل كونه يعرف كيف يُوازن بين أضدادها.
وهكذا، تتضح الرسالة: لسنا مطالبين بأن نصبح ملائكة، بل أن نتعلم كيف نصغي لصوت العقل والحكمة وسط ضجيج التناقضات. الغربال السقراطي هو مرآة تذكّرنا أن ما نزرعه بالكلمة والفعل قد يكون ظلالًا تُطفئ القلوب، أو نورًا يُضيء الأرواح.
تعليقات
إرسال تعليق