قصة قصيرة: النافذة الأخيرة
قصة قصيرة: النافذة الأخيرة
في البيت الصغير، كان الرجل محاصراً بدائرة ضيقة من الظلال، حيث الجدران تتنفس ببطء. لم يكن وحده كما يظن الزائرون، بل كان يرافقه ظلّ غامض يسمّيه أحياناً: المرض. لم يكن المرض عدواً تماماً، ولا صديقاً، بل رفيقاً عبثياً يلازمه مثل مرآة تذكّره أن الجسد ليس سوى قفص يتصدع ببطء. كان وجوداً منفصلاً: سجّاناً يغلق الأبواب ويحمل المفاتيح في ساعات الألم، وصديقاً وحيداً يهمس بأسرار الحياة عندما يخفت ضجيج العالم.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو يتعامل مع هذا الظلّ في مفاوضة وجودية. على رفوفه، كانت أفكار دوستويفسكي تتصارع مع عبثية كامو، بحثاً عن معنى في عالمٍ أشبه بحلم ثقيل. الزمن عنده لم يكن خطاً مستقيماً يمضي من المهد إلى اللحد، بل دائرة مُغلقة. كل صباح، مع كوب الشاي الساخن، كان يعيش ذاكرة صباح سابق. كل وعاء من حساء العدس كان يذكّره بأخرى، وكأن الأيام تكرر نفسها في طقس عبثي يحفر في أعماقه أسئلة لم تُجب. كان بيته مسرحاً لهذه الدراما. لم يكن مجرد جدران، بل جسده الثاني: قفصاً وقبضة، حصناً ومقبرة. وكان يرفض المستشفى، يراها "مقبرة مضاءة بالنيون"، ويقول: "إذا كان لا بد من الرحيل، فليكن هنا، حيث النافذة شاهدةٌ، والسرير أقرب إلى وسادة لا إلى منصة عقاب."
كانت النافذة بوابته الأخيرة، منها يشاهد العالم يمر، وعيناه تبحثان عن شيء ما وراء الأفق. وفي ليلة من ليالي الصمت الحالك، حيث كان تنفسه يحوّل الغرفة إلى سماء عاصفة، شاهد الشمس تغرب للمرة الأخيرة. لم يكن ذلك مشهداً طبيعياً، بل طقساً داخلياً. قال بكلماتٍ أخيرة تملّصت من شفتيه كأنها أنفاس: "كنت أبحث عن معنى... والآن أبحث عن الهدوء." الغروب كان رمزاً لرحيله الداخلي، لموتٍ سبق الجسد، لاستسلام العقل لفكرة أن السؤال نفسه هو الجواب. ضحك المرض بجانبه، ضحكة مكتومة لا يسمعها أحد، وقال له: "أنا لم أُرسل لأقتلك، بل لأذكّرك أن الحياة ليست أبدية… إنها مزحة طويلة."
وقبل ذلك، كان أصدقاؤه القلائل يزورونه، يحيطون به كحلقة ضد الفراغ. لكنه كان يعرف أنهم يرحلون وفي عيونهم خوف يخصّهم، لا هو. وفي لحظة نادرة من الصفاء، همس لصديقه القديم بكلمات ظلّت تتردد في أرجاء الغرفة كشبح: "ضحكنا أكثر مما بكينا... كان الأمر برمته وكأنه وداعٌ متنكّرٌ بزيّ الحنين." ثم انخفض ضغط الدم إلى مستوى الصمت، وصار تنفسه أشبه بعاصفة محبوسة. شعر أن البيت كله يهتزّ معه، وكأن الجدران تشهق. مد يده نحو النافذة، فرأى وراء الزجاج ضوءاً غريباً: لا هو غروب ولا شروق، بل شيء ثالث لا اسم له. اقترب من الضوء، ثم ابتلع الصمت كل شيء.
عدنان الطائي
تعليقات
إرسال تعليق