من البروليتاريا الصناعية إلى البروليتاريا الرقمية: قراءة ماركسية في عصر المعرفة

 

من البروليتاريا الصناعية إلى البروليتاريا الرقمية: قراءة ماركسية في عصر المعرفة

بقلم عدنان الطائي

تمهيد

  شهد العالم منذ القرن التاسع عشر تحوّلات عميقة مع الثورة الصناعية التي أدخلت المكننة كعنصر أساسي في عملية الإنتاج. وقد أنتجت تلك التحولات طبقة اجتماعية جديدة هي البروليتاريا الصناعية، أي العمال الذين يبيعون قوة عملهم مقابل الأجر. واليوم، ومع الثورة الرقمية وتفجّر اقتصاد المعرفة، نشهد ولادة شكل جديد من البروليتاريا يمكن تسميته بـ البروليتاريا الرقمية. هذا التحول يفرض مقاربة جديدة للماركسية، إذ لم يعد الصراع الطبقي محصوراً بين مالكي المصانع والعمال، بل توسّع ليشمل فضاءً لا مادياً، تتحكم فيه البيانات والبرمجيات والمنصات الرقمية.

المكننة وتكوين البروليتاريا الصناعية

في عصر المكننة، حوّلت المصانع الإنسان إلى ملحق للآلة، وقُلّصت علاقته بالإنتاج إلى مجرد قوة عمل بدنية. كان ماركس يرى في ذلك بداية اغتراب العامل عن نتاجه وعن ذاته، حيث يسيطر الرأسمالي على وسائل الإنتاج ويستحوذ على فائض القيمة. وقد مثّل هذا الصراع أساس التحليل الماركسي لعلاقات الإنتاج في الرأسمالية الصناعية.

عصر المعرفة الرقمية وظهور البروليتاريا الجديدة

اليوم لم تعد الآلة الميكانيكية هي مركز السيطرة، بل الخوارزمية والبيانات الضخمة. الشركات الرقمية العملاقة (غوغل، أمازون، ميتا، مايكروسوفت، وغيرها) لا تملك فقط البنية المادية (الخوادم، الكابلات، مراكز البيانات) بل تحتكر أيضاً المعرفة والتكنولوجيا التي أصبحت المورد الأهم في الاقتصاد العالمي. البروليتاريا الرقمية ليست محصورة بالعمال التقنيين أو المبرمجين، بل تشمل:

  • المستخدمين الذين يزوّدون المنصات ببياناتهم مجاناً وتُستثمر في الربح.
  • المبرمجين والمصممين الذين يعملون تحت ضغوط المنافسة والعقود المؤقتة.
  • العاملين في اقتصاد المنصات (Uber، Deliveroo، وغيرها) الذين يتحكم بهم الذكاء الاصطناعي في توزيع العمل والأجور.

مرونة المنهج الماركسي

على الرغم من أن ماركس عاش في عصر المكننة، إلا أن منهجه النقدي يتمتع بمرونة عالية تسمح بتطبيقه على الواقع الرقمي. فالمفاهيم الأساسية مثل:

  • الاغتراب: حيث يغترب الفرد عن بياناته وهويته الرقمية لصالح الشركات الكبرى.
  • فائض القيمة: الذي لا يُستخرج فقط من العمل اليدوي، بل من الوقت الرقمي والبيانات المستخرجة من نشاط الأفراد.
  • الصراع الطبقي: الذي لم يعد صراعاً على خط الإنتاج التقليدي، بل في الفضاء الافتراضي على ملكية المنصات وقوانين الوصول إلى المعلومات.

التناقضات في العصر الرقمي

  • تسليع المعرفة: ما كان يُفترض أن يكون متاحاً للإنسانية جمعاء أصبح خاضعاً لاحتكار شركات تفرض اشتراكات أو قيود وصول.
  • العمل غير المرئي: المستخدم العادي يظن أنه "حر" في التصفح، بينما يقدّم بشكل غير واعٍ خدمة إنتاجية تدر مليارات على المنصات.
  • اللامساواة الرقمية: بين شمال متقدّم يحتكر التكنولوجيا وجنوب ما يزال يستهلكها فقط دون امتلاكها.

آفاق الحل

إذا كانت الماركسية في عصر المكننة قد طرحت "الاشتراكية" كبديل لتحرير الإنسان من استغلال رأس المال الصناعي، فإن عصر المعرفة الرقمية يحتاج إلى:

1.  دمقرطة التكنولوجيا: فتح مصادر البرمجيات والمعرفة للجميع.

2.  ملكية جماعية للبيانات: اعتبار البيانات مورداً عاماً وليس ملكية خاصة.

3.  عدالة رقمية: تضمن حقوق العاملين في المنصات والفضاءات الافتراضية.

خاتمة

لقد أثبت التاريخ أن الرأسمالية تتجدد عبر أشكال مختلفة من السيطرة، لكنها تبقى قائمة على التناقض بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك سوى قوة عمله. في الماضي كانت الآلة هي المحور، واليوم أصبحت الخوارزمية. ومع ذلك، يظل منهج ماركس النقدي أداة صالحة لفهم جوهر الصراع وإعادة طرح السؤال القديم المتجدد: كيف يمكن تحرير الإنسان من هيمنة رأس المال، سواء كان مادياً أو رقمياً؟ والان ممكن تحقيقه من خلال خلق نظام جديد نسميه (الماركسية المرنة) في ظل نظام ديمقراطي.. عندها تصبح الماركسية مشروعا عمليا وليست كمنهج نقدي فحسب.. وهذا التحول يفرض مقاربة جديدة للماركسية كما اسلفنا.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية