بين النفي والإثبات: حين يلتقي سقراط وأفلاطون في مفارقة الحقيقة


 

بين النفي والإثبات: حين يلتقي سقراط وأفلاطون في مفارقة الحقيقة

بقلم عدنان الطائي

1.  سقراط يقول: كل ما يقوله أفلاطون خاطئ.

2.  أفلاطون يرد: ما قاله سقراط صحيح.

ما بين سقراط وأفلاطون هنا ليس بالضرورة حوار فلسفي جاد عن "المثالية" و"البراغماتية"، بل يبدو أقرب إلى مفارقة منطقية أو لغز فلسفي يشبه ما يُعرف في المنطق بالمفارقة الكاذب (Liar Paradox).

دعنا نفكك الموقف خطوة خطوة:

  لو كان كلام سقراط صحيحًا، فهذا يعني أن أي عبارة ينطقها أفلاطون خطأ. اما إذا كان كلام أفلاطون هذا صحيحًا، فهذا يعني أن سقراط محق في قوله وأن كل كلام أفلاطون خاطئ.. لكن إذا كان كل كلام أفلاطون خاطئًا، فإن جملة ما قاله سقراط صحيح، يجب أن تكون خاطئة، وهذا يجعل كلام سقراط غير صحيح… وندخل في حلقة تناقض لا تنتهي. إذن القضية هنا ليست تصنيف سقراط كـ"واقعي" وأفلاطون كـ"مثالي"، بل هي تجربة فكرية لإظهار أن بعض الجمل المتبادلة بين طرفين يمكن أن تخلق تناقضًا ذاتيًا يستحيل حسمه بالمنطق التقليدي. هذه اللعبة المنطقية تستخدم عادةً للتدريب على كشف التناقضات الذاتية وكيفية تعامل المنطق معها، وليس لوصف موقف فلسفي حقيقي بين المعلم والتلميذ. وبالإمكان شرح كيف يمكن ربط هذه المفارقة بمفهوم "النسبية في الحقيقة" الذي قد يجمع بين الواقعية والمثالية في فهم سقراط وأفلاطون. فالجملتان تخلقان حلقة تناقضية، الا ان يتبين ان سقراط حكم على كلام أفلاطون كله بالخطأ وان أفلاطون يصدّق كلام سقراط، فيقع حكمها تحت نفس النفي. اذن فمن المنطق الكلاسيكي أن يحسم صدق أو خطأ العبارتين معًا. فالتفسير الفلسفي المحتمل يمكننا أن نتعامل مع هذا الموقف وكأنه درس غير مباشر من سقراط وأفلاطون حول حدود الحقيقة المطلقة.. فنجد ان:

  • سقراط الواقعي البراغماتي: يرى أن أقوال البشر (حتى أفلاطون) ليست كاملة أو معصومة، وأن الحقيقة تُختبر في الواقع العملي وليس بمجرد التنظير.
  • أفلاطون المثالي: حتى وهو يعترف بسقراط، يضع نفسه في إطار أن "الحقيقة قد تتجاوز المنطق الظاهري"، أي أن الاعتراف بالخطأ قد يكون في ذاته بحثًا عن الصواب.

   بهذا المعنى، الجملة المتناقضة تصبح أداة تعليمية: سقراط يذكرنا ألا نقدّس الأقوال مهما كان قائلها. وأفلاطون يذكرنا أن الاعتراف بمحدوديتنا لا يُبطل بحثنا عن المُثال العليا. قد يكون الهدف الإشارة إلى أن الحقيقة ليست ملكًا لطرف واحد، وأن الحوار قد يكشف عن مناطق "لا يقينية" تجعلنا نعيد النظر في طريقة بحثنا عن المعرفة. هذه المساحة بين النفي والإثبات هي بالضبط الجسر الذي يربط الواقعية بالمثالية:

  • الواقعي يختبر الفكرة في الحياة اليومية.
  • المثالي يطمح إلى صورتها الأكمل.

لكن كلاهما يصطدما أحيانًا بتناقضات منطقية تكشف أن الحقيقة أكبر من أن تُختزل في جملة واحدة.

المناقشة:

  ان ما قاله سقراط: "كل ما يقوله أفلاطون خاطئ"، فرد أفلاطون قائلاً: "ما قاله سقراط صحيح". قد يبدو هذا تبادلًا بسيطًا للجمل، لكنه في عمق المنطق والفلسفة يفتح لنا بابًا إلى واحدة من أقدم الإشكاليات الفكرية: المفارقة الذاتية أو "حلقة الكاذب". فإن قبلنا بكلام سقراط، صار لزامًا أن يكون كل ما يقوله أفلاطون خطأ، بما في ذلك جملته الأخيرة التي تقرّ بصحة كلام سقراط. وهنا يتهاوى البناء المنطقي. وإن رفضنا كلام سقراط، سقطت معه صحة كلام أفلاطون الذي أيّده، فتنهار السلسلة من الطرف الآخر. نحن أمام حلقة مفرغة، لا بداية لها ولا نهاية. لكن، بعيدًا عن المعنى الحرفي، يمكن النظر إلى هذه المفارقة كدرس فلسفي عميق:

  • سقراط الواقعي البراغماتي يذكّرنا بأن أقوال البشر – حتى أعظم الفلاسفة – ليست معصومة، وأن الحقيقة تحتاج إلى اختبار في الواقع، لا إلى التسليم الأعمى بها.
  • أفلاطون المثالي يرى أن الاعتراف بمحدودية أقواله ليس تنازلًا، بل خطوة نحو مثال أعلى، حيث تُصبح الحقيقة هدفًا أبديًا يتجاوز حدود المنطق الصارم.

     إن هذا التناقض الظاهري بين النفي والإثبات يكشف عن مساحة مشتركة بين الواقعية والمثالية: فالواقعي يختبر الفكرة في الحياة اليومية، والمثالي يطمح إلى صورتها الأكمل. لكن كليهما يعترف – ولو ضمنيًا – أن الحقيقة أكبر من أن تُختزل في جملة واحدة أو موقف واحد. وهكذا، لم يكن الحوار بين سقراط وأفلاطون مجرد جدل لغوي، بل كان مرآة تعكس حدود المنطق البشري، وتدعونا لرحلة أعمق نحو فهم الحقيقة، حيث لا يقين مطلق ولا إنكار مطلق، بل بحث دائم بين النفي والإثبات.

خاتمة رمزية ومدى انطباقها على واقعنا الراهن:

  في زمننا الحاضر، تتكرر مفارقة سقراط وأفلاطون في صور شتى: في السياسة، حيث يدّعي فريق امتلاك الحقيقة الكاملة بينما ينقضه الواقع. في الإعلام، حيث تتحول الحقائق إلى روايات متناقضة يصدّق بعضها بعضًا ويفندها في الوقت ذاته. وفي حياتنا اليومية، حين نحاول الحكم على المواقف دون أن ندرك أننا أسرى لرؤيتنا المحدودة. هنا، نتعلم أن البحث عن الحقيقة لا يكتمل في دائرة الاتهام أو التصديق الأعمى، بل في مساحة وسطى نسمح فيها للنفي والإثبات أن يتحاورا، علّنا نقترب أكثر من جوهر المعرفة.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية