المقدمة الإنسان بين العبث والقدر: من سيزيف إلى آدم

 

اسطورة زيزيف لألبير كامو

عدنان الطائي

المقدمة الإنسان بين العبث والقدر: من سيزيف إلى آدم

    حين نتأمل حال الإنسان في النصوص الإلهية، نراه كائناً معلقًا بين الحرية والمسؤولية من جهة، والقدر والمشيئة الإلهية من جهة أخرى. وبينما تسعى الفلسفة إلى تفكيك هذا التوتر، يقدمه الدين كجزء من المعنى الإنساني. في المقابل، نجد في فلسفة ألبير كامو، لا سيما في أسطورة سيزيف، قراءة لواقع الإنسان تصفه بأنه يعيش داخل كون صامت وعبثي، ومع ذلك يملك حرية التمرد الواعي. في العقيدة الإسلامية، ثمة ايات كانت محط تأويلات عقائدية متعددة عن مدارس عقدية مختلفة منها الاشاعرة والشيعة الامامية والمعتزلة تحدثوا عن القدر ما إذا كان أفعال الانسان تقع بين مسير او مخير تستحق البحث ومنهجة الموضوع علميا وفلسفيا وحتى دينيا، هذا ما سنجده في هذه البحث، لكن، بعيدًا عن المدارس، ما المعنى الفلسفي لهذا التوتر؟ وهل ثمة قواسم فكرية بينه وبين فلسفة كامو؟ وهل هناك تقاطع بين المفهومين، رغم التباعد الظاهري، نرى الحرية في النص القرآني لا تلغي القدر، لكنها تمنح المعنى والإنسان يُختبر، ويبتلى، لكن يُحاسب وفق ما اختاره بإرادته. وفي فلسفة كامو، العبث لا يُنكر الوجود، بل ينكر المعنى الجاهز. وهنا تظهر دعوة صامتة إلى إبداع المعنى عبر الوعي. يمكن القول إن الإنسان عند الفريقين ليس حرًا مطلقًا ولا مسيّرًا تمامًا، بل هو في موقف وجودي دائم، تتصارع فيه الإرادة مع المصير، ويُنتج فيه الإنسان حريته عبر فهم محدوديته. من هذا الاستعراض يطرح سؤال من منهما اصدق فلسفيا؟

      فلسفيًا، يُعد موقف "الأمر بين أمرين" أقرب للواقع الوجودي. فكما أن الإنسان لا يتحكم في ولادته أو موته أو بيئته، إلا أنه يملك حريته الأخلاقية ضمن هذا الإطار. أما موقف كامو، رغم حدّيته، فيُبقي على قيمة الإنسان في وجه العبث، ويشبه إلى حد كبير التقوى الواعية في النص الديني: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". إننا إذ نقرأ سيزيف وهو يجر صخرته، نتذكر آدم وهو يُخرج من الجنة، لا كمعاقب، بل كـ"خليفة" في الأرض. وبين هذا وذاك، يسير الإنسان حاملاً وعيه، خيباته، وتمرده، باحثًا عن معنى مؤقت في عالم مؤبد.

     سيزيف شخصية من الميثولوجيا الإغريقية، كان ملكًا ماكرًا تحدّى الآلهة، فحُكم عليه بعقاب أبدي: أن يدفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل، ولكن كلما اقترب من القمة، تتدحرج الصخرة إلى الأسفل، فيعيد الكرة مرة أخرى، إلى ما لا نهاية. استخدم البير كامو هذه الأسطورة في كتابه الفلسفي "أسطورة سيزيف" (1942)، استخدمها كرمزٍ للعبثية، وتحديدًا ليرد على سؤال وجودي عميق: هل الحياة تستحق أن تُعاش رغم أنها بلا معنى؟ الغاية من هذا الطرح ان كامو يرى أن الإنسان المعاصر، مثل سيزيف، يعيش في عالم لا معنى له، يمارس أفعالاً متكررة (العمل، الأكل، النوم...)، دون هدف كوني واضح. لكنه يرفض الانتحار كحل، ويطرح بدلاً من ذلك فكرة (التمرد العبثي (، الا ان الغاية الأساسية عند كامو هي أن تعترف بعبثية الحياة، وتتمرد على هذا العبث، بأن تعيش رغم ذلك، وتخلق لنفسك معنى ذاتي، حتى في مواجهة اللامعنى. فالخاتمة الرمزية عند كامو حين يقول :(يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا، حينما يكرر سيزيف فعله العبثي، لا يستسلم ولا ينهار، بل يختار أن يستمر وأن يكون حرًا وأن يجد المعنى في إرادته الذاتية ان لا يستسلم بسهولة، لان العبث ليس دعوة للتشاؤم أو اليأس، بل هو الشرط الأولي للحرية الإنسانية وعيش الحياة بكامل وعينا، حتى دون ضمانات، لأن التمرد هو ما يجعلنا بشرًا.

خلاصة القول ان فلسفة كامو في "أسطورة سيزيف هو التمرد الواعي ضد العبث ضد اللامعنى، لا بالهروب ولا باليأس، بل بالمواجهة لخلق معنى من داخل التجربة نفسها، وأن نحمل صخرتنا بكرامة، ونصنع من الألم وعيًا، ومن التكرار حرية. لان الانسان ليس ضحية قدره، بل صانعه، حتى وإن لم يكن يملك تغييره. طالما نعلم ان القدر من صنع الله وليس من صنع الشر.. لذا وجب علينا ان نفكك هذا الطرح بوضع مقاربة بين فلسفة كامو وفلسفة القضاء والقدر، أي مقاربة بين الفكر الايماني والفكر الوجودي، أي بين ما نؤمن أنه قضاء من الله، وما تدعونا الفلسفة الحديثة إلى اعتباره اختيارًا إنسانيًا حرًا. اذن تدعونا الحاجة الى توضيح الفرق والفكرة من الجانبين باختصار:

 أولًا: في العقيدة الدينية – القضاء والقدر

في الأديان السماوية، خاصة الإسلام:

 القدر هو ما قدّره الله على الإنسان، من خير أو شر، من موت وحياة، رزق ومرض وان الإنسان يُبتلى، ويُحاسب على ما يختار ضمن الإرادة الجزئية، أما المصائب الخارجة عن إرادته فهي من الله لحكمة لا يعلمها إلا هو، بدلالة الآيات القرآنية: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله." سورة الانسان الآية 30 تُظهر أن إرادة الإنسان تابعة لإرادة الله. اذن في هذا المفهوم الإنسان لا يصنع قدره بالكامل، فهو مسير. اما الآية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) من سورة الكهف،29، فالإنسان هنا هو مخير.

يتضح من الآيتين ان هناك تناقض كيف يكون الانسان مخير ومسير في آن واحد، اذن لابد من الذهاب الى التفسير الفلسفي والعقائدي، اذ نجد ان الله خلق كل شيء بقدر، أي بنسب ماديا وفكريا، لان احتكار نسبة الاطلاق لله وحده. لذلك نرى ان الآية الأولى تفيد أن مشيئة الإنسان لا تنفصل عن مشيئة الله، أي أن الله هو الأصل، وكل شيء يتم بإذنه وضمن علمه. وفي الثانية تفيد أن الإنسان لديه حرية في اتخاذ القرار، وقد خُيّر في الإيمان أو الكفر. لذا وجب علينا ان نفكك هذين الرأيين (هل الانسان مسر ام مخير) من تناقضهما على ضوء ما قاله علماء العقيدة مثل الاشاعرة والشيعة الامامية والمعتزلة حسب المصادر والمواقف الفقهية والكلامية:

 أولًا: الشيعة الإمامية (الاثنا عشرية)

تعني ان الامر بين امرين، لا جبر ولا تفويض، بل الإنسان يمتلك حرية جزئية داخل نظام قدره. أي أن الله يعلم ويقدّر ويهيئ الأسباب، ولكن الإنسان مسؤول عن اختياره داخل تلك الأسباب، كالرياح التي تهب على السفينة، الله يهب الرياح، ولكن الربّان يختار كيف يوجّه الدفة. لذلك اراد الشيعة يوازنون بين قدرة الله وحرية الإنسان

 ثانيًا: المعتزلة

تعني ان الإنسان مخيَّر تمامًا (التفويض) كون الإنسان مختار بالكامل في أفعاله، والله لا يتدخل فيها مباشرة، لان الله لا يخلق أفعال الإنسان، بل الإنسان يخلقها بنفسه بقدرته. وغاية المعتزلة كانوا يسعون لحماية العدل الإلهي، فأنكروا الجبر تمامًا، وقالوا إن الجبر يناقض عدل الله، لأن الإنسان لا يُعاقب إلا على شيء اختاره بنفسه. لذلك يميلون إلى التفويض الكامل للإنسان، ولو بدا هذا يقلل من تدخل الله.

 ثالثًا: الأشاعرة يعني لدى الاشاعرة الجبر المغلف(الكسب)، يعني ان الله هو الخالق الحقيقي لكل شيء، بما فيها أفعال العباد. فالإنسان "يكسب" الفعل فقط، أي أنه يحضر النية والاختيار، لكن الله يخلق الفعل لحظة قيامه. لذلك وضع الامام أبو الحسن الاشعري نظرية "الكسب" ليكون حلاً وسطًا: لا جبرٌ كامل، ولا تفويض تام. لكن في الحقيقة، القول ينحو نحو الجبر لأن الإنسان لا يخلق فعله. وقد عنى بكلمة (الكسب) كما رجلًا يُحرّك آلة ضخمة موصولة بالكهرباء، هو يضغط الزر، لكن الطاقة والتشغيل من مصدر آخر. فالإنسان فقط يحضر الفعل، والله يخلقه.

 المقارنة النهائية باختصار:

المذهب

الإنسان

موقفه من الجبر والاختيار

الشيعة الإمامية

مخيَّر جزئيًا

أمر بين أمرين: لا جبر ولا تفويض

المعتزلة

مخيَّر كليًا

الله لا يتدخل في أفعال الإنسان

الأشاعرة

مسيَّر فعليًا

الإنسان لا يخلق أفعاله، بل يكسبها فقط، والله يخلقها

 ثانيًا: في فلسفة ألبير كامو – العبث والتمرد

 يبدو ان كامو (الذي كان لا يؤمن بإله بالمعنى الديني)، يرى:

  • أن الإنسان في كون صامت، لا يقدم له إجابة عن "لماذا وُجدت؟"
  • لا قَدَر مُعدّ سلفًا، ولا حكمة عليا، بل فقط واقع عبثي.
  • الحل ليس الهرب أو انتظار إجابة من السماء، بل أن يخلق الإنسان معناً من داخله، بالتمرد الواعي، كما يفعل سيزيف.

اذن عند كامو: الإنسان يصنع مصيره وحده، والحرية تبدأ حين يرفض تسليم نفسه للعبث أو للخضوع.

النتائج:

ان الغاية من الربط بين النصوص الإلهية وفلسفة كامو في "أسطورة سيزيف" مسار عميق ويستحق التأمل، لمحاولة الجمع بين سؤال المصير والعبث، بين العقل الإنساني الذي يبحث عن معنى، والوحي الذي يوجهه نحو غاية.

أولاً: التناقض الظاهري بين الآيتين، الآية الأولى {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: 30) توحي بأن مشيئة الإنسان لا تتحقق إلا بمشيئة الله. وهذا مدخل لفكرة الجبر. اما الآية التي تقول {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) تؤكد مسؤولية الإنسان عن التغيير، ما يفتح باب الاختيار والحرية. وهذه الآية جاءت متناغمة مع الآية الثانية التي تقول (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) هذا التناقض يدل فلسفيا ان هناك ما يُعرف بـ"الازدواج الجدلي" بين الإرادة الإلهية والمبادرة البشرية. يُمكن تفسير ذلك بأن الله أعطى الإنسان قدرةً مشروطة، تعمل ضمن نظام كوني عام، فلا يخرج الفعل عن علم الله، لكنه لا يُجبر الإنسان عليه.

ثانياً: اما موقف الفرق الكلامية كالأشاعرة تقول: ان الإنسان "يكسب" الفعل لكنه لا يخلقه. أي الإنسان يُشبه يداً تتحرك في يد أقوى منها، تُحركها كيفما شاءت. فلسفيا هذا الراي أقرب إلى العبثية الحتمية التي ينكر فيها الإنسان قدرته على الفعل المؤثر. اما المعتزلة فالأنسان مخير لكونه هو خالق لأفعاله، فالعدالة الإلهية تقتضي ألا يُحاسب الله أحدًا على ما لم يختره. هذا يتقاطع فلسفيا مع فكرة الحرية الوجودية، كما عند سارتر وكامو، حيث الإنسان يتحمل مسؤولية اختياراته بالكامل. اما الشيعة الامامية (أمر بين أمرين) فان الانسان ليس مجبرا ولا مطلق الإرادة، وهذا يعني هناك تكامل بين الإرادة الإلهية وإرادة الإنسان، وهذا هو فلسفيا الحل الديالكتيكي الذي يجمع بين التوحيد وحرية الإرادة.

ثالثاً: اما المقاربة مع كامو واسطورة سيزيف فهناك سؤالا يطرح نفسه: هل للحياة معنى؟ إذا لم يكن لها، فهل الانتحار هو الحل؟ مثل سيزيف يدفع الصخرة كل يوم دون جدوى، لكنه يرفض الاستسلام، ويخلق لنفسه "معنى داخل العبث. من هنا يظهر التقاطع مع فكرة "التكليف" في الإسلام، رغم أن الله يعلم النتيجة، يُكلف الإنسان لأنه يمتلك حرية الاختيار داخل الإطار الإلهي.

الخلاصة المشتركة:

o       كامو: الإنسان يخلق المعنى داخل اللامعنى.

o       القرآن: الإنسان مسؤول عن صنع مصيره ضمن المشيئة الإلهية.

o       الاثنان يرفضان الاستسلام للعبث أو الجبرية. 

رابعاً: أي الرؤى أصح فلسفياً؟

  يتبين ان الموقف الأشعري: حتمي ومتشائم، ويقارب العبثية الوجودية في فلسفة كامو دون المقاومة. وبمعنى اخر رغم أنهم حاولوا الحفاظ على تنزيه الله، إلا أنهم يضحون بحرية الإنسان الأخلاقية لصالح التوحيد والقدرة المطلقة. اما الموقف المعتزلي: عقلاني متفائل، يمنح الإنسان مسؤولية كاملة. والموقف الإمامي (الشيعي): الأكثر توازناً، يعترف بالقدر مع مسؤولية الإنسان. فلسفيا يمكن القول ان الرؤية الشيعية (الأمر بين أمرين) هي الأقرب لفهم كامو للتمرد الواعي، حيث يرفض سيزيف الاستسلام، رغم أنه يعلم النتيجة، لأنه اختار أن يواجهها لا أن يُجبر عليها. ولكن إذا أردنا معرفة ايهما الحقيقة لابد ان نستظل بالأيمان بأن الله خالق كل شيء ومن ضمنه القدر، وأن الإنسان يُختبر في اختياراته ضمن إرادة إلهية شاملة، طالما كما قلنا ان الله خلق كل شيء بقدر. لذلك اميل إلى الفلسفة الإنسانية، فقد نرى أن الإنسان هو من يُعطي لحياته المعنى، حتى دون انتظار وحي أو حكمة من السماء. طالما أن الله قدّر الأمور، لكنه أعطى الإنسان وعيًا وقدرة على التفاعل معها. فالتمرد الذي يدعو له كامو يمكن قراءته دينيًا على أنه الصبر والعمل والتوكل دون يأس، أي الاختيار داخل القدر

خاتمة

الإنسان في النصوص الإلهية ليس سيزيف العبث، بل سيزيف الوعي، الذي اختار أن يدفع الصخرة، لا لأنه مجبر، بل لأنه قرر أن يُثبت نفسه في عالمٍ يتصارع فيه المعنى والقدر، بين الجبر والحرية، بين إرادة السماء وخيارات الأرض.

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية