قصة قصيرة هي لا تعرفني… لكني انا أعرفها

 

قصة قصيرة

هي لا تعرفني… لكني انا أعرفها

    في صباحٍ هادئٍ، كأنّ الأرضَ تتنفّسُ قبل أن يستيقظَ النّاس، خرج الرجلُ المسنُّ من منزله وكأنّه يحملُ جرحًا من ذهبٍ في صدره، عيناهُ مليئتانِ بالحنينِ، وقلبٌ لا يعرفُ إلّا لغةَ الوفاء، متجهاً إلى مكان يعرفه جيداً: دار المسنين … حيث زوجته التي لم تعد تعرفه، لكنها لا تزال جزءاً من روحه، وذاكرة قلبه. هذا الصباح مثل كل صباح، هو موعد مع الوفاء، حيث يثبت أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى ذاكرة، بل إلى قلبٍ يتذكر دائماً.

    نعم هذا الصباح، قبل أن تكتمل خيوط الشمس هذا الرجل الثماني من عمره ذو الشعر الأبيض الكثيف والعينين المليئتين بالحنين، خرج متكئاً على عصاه، متجهاً يستأجر سيارة اجرة نحو دارٍ رعاية المسنين، حيث زوجته المصابة بمرض الزهايمر التي لم تعد تتذكر اسمه، ولا ملامحه، ولا حتى أنهم يوماً تقاسموا الحياة تحت سقف واحد ما يقارب الستون عاما، زوجتهُ التي صارَ الزّهايمرُ سارقَ ذاكرتِها، لكنّهُ لم يسرقْ منها أنفاسَها التي تلمعُ كفراشاتٍ في غابةِ روحِه. نعم الزهايمر سرق منها الذاكرة، لكنه لم يستطع أن يسرق منه الوفاء. وبعد بضع دقائق، كسر السائق الصمت وسأله بابتسامة: هل تزور أحداً هناك؟ نعم هناك زوجتي. ارتفع حاجبا السائق باستغراب: تقيم هناك منذ فترة؟  تنهد الرجل، وكأن أنفاسه تحمل ذكريات عمر كامل، وقال: نعم، منذ سنوات… تعاني من الزهايمر. لم تعد تتذكر الكثير، لكني أذهب إليها كل صباح لنتناول الإفطار معاً، ثم أقرأ لها بعض الصحف أو رواية كانت تحبها. باغته سائق سيارة الأجرة بسؤال: لماذا تذهبُ إليها إن كانتْ لا تعرفُك؟  ابتسمَ الرجلُ كمن يمسكُ بيدِ طفلٍ خائفٍ في ليلٍ طويل، وقال: هي لا تعرفُني… لكنّني أعرفُ أنها وطني الذي لم أُسجّلْ حدودَه على خريطةٍ، وهي القصيدةُ التي لن تكتملَ إلّا إذا قرأتها عينايَّ.  لان في قاموسي، الحب ليس صفقة بين ذاكرتين إنه عهدٌ بين قلبين، أحدهما لا ينسى الاخر. أبطأ السائق دون أن يشعر، منشغلاً بحديث الرجل. لاحظ الرجل ذلك، فمال بجسده قليلاً للأمام قائلاً: لو سمحت، أسرع قليلاً… لا أريد أن أتأخر عليها، توقف السائق لحظة عن الكلام، ثم قال بدهشة صادقة: ومع ذلك، تذهب إليها كل صباح؟!  التفتَ إلى السّائقِ كما لو كان يودّعُ مرسىً في بحرٍ قديم، وقال: هي لا تعرفُ من أنا…  لكنّني أعرفُ أنّها الجنّةُ التي لم أستحقّها.. والوطنُ الذي تعثّرتُ على أبوابِه طوالَ حياتي فأهدتني مفتاحَ قلبِها.. دفع الاجرة حال وصوله للدار ووضع يده على مقبض الباب ثم التفت بابتسامة هادئة قبل ان تطأ قدماه الارض كررها: هي لا تعرف من أنا… لكنني أنا أعرف تماماً من هي. ترجل مسرعاً، وكأن خطواته تقوده نحو موعد مقدس. مشى نحو البابِ الذي يلمعُ كأنّه شُرفةٌ على السماءِ، وهو يعلمُ أنّ الحبَّ الحقيقيَّ ليس ذكرى تُختَزَنُ.. بل هو نهرٌ يجرى تحتَ أقدامِ الزمنِ، فلا تجفُّ ضفّتُه.. ولا ينسى البحرُ أنّه كانَ يومًا ندىً.

 نعم أن الحبَّ الحقيقي لا يحتاجُ إلى ذاكرة، بل إلى قلبٍ يتذكر دائماً

عدنان الطائي

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية