الواقعية النقدية كمدخل لتحليل زيف الديمقراطيات الشكلية في أنظمة الشرق الأوسط: العراق نموذجًا

 

الواقعية النقدية كمدخل لتحليل زيف الديمقراطيات الشكلية في أنظمة الشرق الأوسط: العراق نموذجًا

بقلم عدنان الطائي

المقدمة

الواقعية النقدية هي اتجاه فلسفي حديث نشأ في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقوم على محاولة التوفيق بين الواقع الموضوعي وبين معرفة الإنسان المحدودة والوسائطية بهذا الواقع.

المعنى العام:

   الواقعية النقدية تقول إن هناك واقعًا مستقلًا عن وعينا (ضد المثالية التي ترى أن الوجود مرتبط بالعقل أو الفكر)، لكن في الوقت نفسه، معرفتنا بهذا الواقع لا تأتي مباشرة، بل عبر نظريات، مناهج، ومفاهيم قابلة للنقد والتطوير. أي أنها واقعية لأنها تقر بوجود واقع مستقل، ونقدية لأنها تعترف بأن أدوات معرفتنا نسبية وليست مطلقة.

الفكرة الأساسية:

  • العالم موجود بغضّ النظر عن إدراكنا له.
  • العلم البشري ليس انعكاسًا آليًا للواقع، بل هو بناء معرفي يمكن أن يكون خاطئًا أو ناقصًا.
  • الحقيقة العلمية نسبية، لكنها مع ذلك تتجه تدريجيًا نحو الاقتراب من الواقع عبر المراجعة والنقد.

أبرز من قال بها:

يُعدّ الفيلسوف البريطاني روي بهاسكار Roy Bhaskar (1944–2014) المؤسس الأبرز للواقعية النقدية في سبعينيات القرن العشرين، خصوصًا في كتابه "نظرية واقعية للعلم" (A Realist Theory of Science, 1975).

  • كما تأثر بها مفكرون في مجالات متعددة مثل العلوم الاجتماعية (مارغريت آرتشر) وعلم الاجتماع النقدي.

إذن: الواقعية النقدية يعني ان هناك واقع مستقل عن وعينا، لكن معرفتنا به تمر عبر أدوات ونظريات قابلة للنقد والتصحيح.

العلاقة الجدلية بينها وبين الواقعية الكلاسيكية والوضعية وما هي الفروق الأساسية بينهم حتى تتضح الصورة:

1️ الواقعية الكلاسيكية (Classical Realism)

  • الموقف: ترى أن هناك واقعًا خارجيًا مستقلًا عن وعينا، وأن معرفتنا له ممكنة بشكل مباشر (المعرفة = صورة طبق الأصل عن الواقع).
  • المثال: كما كان عند أرسطو ومن بعده الفلسفة المدرسية (السكولائية)؛ العقل يعكس ما هو موجود في الخارج كما هو.
  • النقد: هذا الطرح يُبسِّط العلاقة بين الفكر والواقع، ويتجاهل أن معرفتنا دائمًا تمر عبر أدوات لغوية، نظرية، وتجريبية.

2️ الوضعية (Positivism)

  الموقف: (كما عند أوغست كونت ولاحقًا الوضعية المنطقية) تعتبر أن المعرفة العلمية هي المعرفة الوحيدة الصحيحة، وأن ما لا يمكن ملاحظته تجريبيًا لا معنى له. فالأساس: هو العلم يعني الملاحظة + التجريب" دون حاجة لافتراضات ميتافيزيقية. اما النقد: متهمة بالتضييق، لأنها تستبعد الأسئلة الفلسفية أو القيمية أو الميتافيزيقية وتتعامل مع الواقع كأنه مجرد ظواهر قابلة للقياس.

3️ الواقعية النقدية (Critical Realism) – روي بهاسكار

  • الموقف: هناك واقع مستقل عن وعينا (ضد المثالية)، لكن لا يمكن أن نصل إليه إلا عبر نظريات ومفاهيم بشرية (ضد الواقعية الكلاسيكية والوضعية).
  • الأساس:
    • الواقع موجود بطبقاته (الطبيعي، الاجتماعي، إلخ).
    • العلم يبني نماذج عن هذا الواقع، وهذه النماذج نسبية وليست نهائية.
    • لا وجود لمعرفة "خالصة" أو مباشرة، بل دائمًا نقدية وقابلة للتصحيح.
  • القوة: تعترف بوجود حقيقة موضوعية، لكنها تتواضع أمام محدودية أدواتنا في معرفتها.
  • إذن:
  • الواقعية الكلاسيكية: العقل يعكس الواقع كما هو.
  • الوضعية: المعرفة العلمية = ملاحظة وتجريب فقط.
  • الواقعية النقدية: هناك واقع مستقل، لكن معرفتنا به نظرية-نقدية، تتغير مع الزمن.

وهناك امثلة تطبيقية واضحة من العلوم والاجتماع/السياسة لتوضيح الفروق:

 مثال من العلوم: الذرة

  • الواقعية الكلاسيكية: تقول إن الذرة موجودة كما نصفها، وما يراه العالم في نموذجه (مثلاً "نظام كوكبي صغير") هو صورة مطابقة للواقع.
  • الوضعية: تقول لا يهم إن كانت الذرة "حقيقية" أم لا، المهم أن نموذجها الرياضي/التجريبي ينجح في التنبؤ بالنتائج (المشاهدة + القياس). الأسئلة عن "حقيقة الذرة" بلا معنى.
  • الواقعية النقدية: تقول: نعم، هناك ذرة حقيقية مستقلة عنا، لكن كل نموذج علمي (من دالتون طومسون رذرفورد بور ميكانيكا الكم) ليس سوى تقريب نقدي للواقع. نحن لا نملك "صورة مطلقة" للذرة، بل نسير بخطوات تدريجية نحو فهمها الأعمق.

 مثال من الاجتماع والسياسة: الفقر

  • الواقعية الكلاسيكية: تعتبر أن الفقر مجرد "ظاهرة" يمكن ملاحظتها مباشرة (قلة المال/الدخل).
  • الوضعية: تركز فقط على ما يمكن قياسه بالأرقام والإحصاءات: نسبة دخل، معدل بطالة، خط فقر محدد… دون النظر لما وراء الأرقام.
  • الواقعية النقدية: تقول إن الفقر ليس مجرد أرقام، بل وراءه بُنى اجتماعية واقتصادية غير مرئية (علاقات قوة، نظام اقتصادي عالمي، تهميش سياسي). إذن لفهم الظاهرة يجب الذهاب أبعد من "المشاهدات المباشرة" نحو الآليات العميقة التي تخلقها.

 الخلاصة في صورة عملية:

  • الواقعية الكلاسيكية = "ما نراه هو الحقيقة كما هي".
  • الوضعية = "ما يمكن قياسه وملاحظته فقط هو الحقيقة".
  • الواقعية النقدية = "هناك حقيقة مستقلة، لكن علينا نقد وتحليل الأدوات التي نعرفها بها، والكشف عما وراء الظواهر".

ولتكون المقارنة أوضح وأسهل نضع جدولا صغيرا للمقارنة بين هذه الاتجاهات الثلاثة

الاتجاه

نظرتهم إلى الواقع

نظرتهم إلى المعرفة

القوة

الضعف

الواقعية الكلاسيكية

الواقع موجود ومستقل عن الإنسان

المعرفة صورة مطابقة للواقع (انعكاس مباشر)

تؤكد على موضوعية الوجود

تبسيط العلاقة بين الفكر والواقع؛ إهمال دور النظريات

الوضعية

لا تهتم بالواقع "في ذاته"، بل بما يمكن ملاحظته وقياسه

المعرفة العلمية = الملاحظة + التجريب

دقة المنهجية والاعتماد على الملاحظة

تضييق المجال المعرفي، إهمال ما وراء الظواهر والقيم

الواقعية النقدية

الواقع موجود ومستقل عن وعينا، لكن بطبقات (الطبيعي، الاجتماعي…)

المعرفة تقريبية، تمر عبر نظريات قابلة للنقد والتصحيح

توفيق بين الاعتراف بوجود الواقع ومحدودية معرفتنا به

قد تبدو معقدة وصعبة الفهم للتطبيقات المباشرة

 

بهذا الشكل ترى أن الواقعية النقدية جاءت كـ حل وسط:

  • لا تنكر وجود الواقع (مثل الكلاسيكية).
  • ولا تحصر المعرفة في الظواهر المرصودة فقط (مثل الوضعية).
  • بل تؤكد أن هناك واقعًا أعمق، وأننا نقترب منه تدريجيًا عبر النقد المستمر.

ومن هنا نقدم شرحا في أثر الواقعية النقدية في العلوم الاجتماعية والسياسية الحديثة، لأن حضورها هناك أقوى من حضورها في الفيزياء أو الرياضيات.

 .1 في العلوم الاجتماعية

  • الواقعية النقدية ترى أن الظواهر الاجتماعية (مثل الفقر، العنصرية، الاستبداد، البطالة) ليست مجرد أحداث سطحية أو إحصاءات، بل وراءها بُنى خفية تعمل وتؤثر حتى إن لم نرها مباشرة. مثلاً:
    • الفقر ليس مجرد انخفاض دخل بل نتيجة بنية اقتصادية عالمية )النيوليبرالية، التبعية، الاستغلال)
    • العنف الأسري ليس مجرد "سلوك فردي" بل نتيجة ثقافة أبوية وهيمنة اجتماعية.

إذن الواقعية النقدية تعطي الباحث الاجتماعي أداة للكشف عن "الآليات العميقة" خلف الظواهر، وليس الاكتفاء بوصفها.

. 2 في السياسة

  • الواقعية النقدية ترفض "السطحية" التي يقع فيها التحليل السياسي أحيانًا (مجرد رصد أحداث أو تصريحات).
  • تعتبر أن السياسة تقوم على بُنى قوة خفية:
    • النظام الدولي (مراكز وهيمنة).
    • البُنى الاقتصادية (رأسمالية، عولمة).
    • البُنى الإيديولوجية (خطاب ديني/قومي/إعلامي).

 مثلاً:

  • بدل أن نفسر الحرب فقط بأنها "قرار زعيم"، الواقعية النقدية ترى أنها نتاج شبكة معقدة من المصالح، الاقتصاد، والسياقات التاريخية.
  • بدل أن نصف دولة بالـ"ديمقراطية" لمجرد وجود انتخابات، نسأل: ما هي القوى العميقة التي تتحكم فعلًا؟ (نخب اقتصادية؟ تدخل خارجي؟ خطاب أيديولوجي؟).

 .3 في البحث العلمي الحديث

  • دفعت الواقعية النقدية الكثير من الباحثين إلى الجمع بين الكمّ (الإحصاءات) والكيف (التحليل العميق للنصوص والخطاب) لفهم الظواهر.
  • شجّعت على تجاوز الصراع التقليدي بين:
    • الوضعية (الميل إلى الأرقام فقط).

o       التأويلية (الميل إلى الفهم الثقافي فقط).

  لأنها تقول: كلاهما مهم، لكن يجب أن نبحث أيضًا عن "الآليات العميقة" غير المرئية.

الخلاصة

  • الواقعية النقدية في العلوم الاجتماعية والسياسية = منهج يكشف المستويات الخفية التي تصنع الواقع (الاقتصاد، الثقافة، السلطة، الخطاب…).
  • لذلك أصبحت مهمة جدًا في:
    • علم الاجتماع النقدي.
    • دراسات التنمية.
    • دراسات السلطة والعولمة.
    • التحليل السياسي الحديث.

كما يمكننا تقديم مثالًا تطبيقيًا معاصرًا من العراق أو الشرق الأوسط يُظهر كيف يمكن استخدام الواقعية النقدية لفهم السياسة في المنطقة: 

 المثال: الوضع السياسي في العراق بعد 2003

التفسير السطحي (كما تفعل الوضعية أو الواقعية الكلاسيكية):

  • نقول: العراق بلد فيه انتخابات، برلمان، دستور، إذن هو "ديمقراطية ناشئة".
  • أو نقول: الفوضى سببها فقط "فساد السياسيين" أو "ضعف الدولة".

هذا وصف مباشر للظاهرة دون الغوص في عمقها. التفسير الواقعي النقدي: الواقعية النقدية لا تكتفي بظاهر الأمور، بل تسأل: ما الآليات العميقة غير المرئية التي تحكم المشهد؟ فتكشف لنا أن:

1.  الاحتلال الأمريكي لم يؤسس دولة سيادية، بل بنية تابعة سياسيًا واقتصاديًا (اعتماد على الخارج).

2.  التدخل الإيراني نسج شبكة ميليشيات وأحزاب مرتبطة به، تتحكم في القرار السياسي خلف الكواليس.

3.  الطائفية السياسية ليست مجرد "اختيار الناس"، بل نتيجة بنية مفروضة )نظام محاصصة يعيد إنتاج الولاءات الطائفية (.

4.  الفساد ليس مجرد "سلوك أفراد"، بل آلية بنيوية تجعل الاقتصاد قائمًا على توزيع المنافع لا على الإنتاج.

5.  الوعي الشعبي نفسه تم تشكيله بخطاب ديني/إعلامي يبرر هذه البُنى، ويمنع تشكل حركة وطنية جامعة.

 النتيجة:

الواقعية النقدية تقول: لفهم أزمة العراق، لا يكفي أن نرى "برلمانًا وانتخابات" أو "فسادًا وظلمًا"، بل يجب أن نرى البُنى الأعمق:

  • الاحتلال الخارجي + التدخل الإقليمي.
  • البنية الطائفية والمحاصصة.
  • الاقتصاد الريعي النفطي.
  • شبكة الولاءات والزبائنية.
  • الخطاب الديني/الإعلامي المسيطر.

هذه الآليات هي التي تُنتج المشهد السياسي مهما تغيّر الأشخاص في الواجهة. ويمكن تطبيق ذلك بشكل أوسع على الشرق الأوسط:

  • في لبنان: الأزمة ليست فقط "سوء إدارة"، بل نتيجة بنية طائفية عميقة مدعومة من الخارج.
  • في فلسطين/إسرائيل: ليست مجرد "صراع ديني"، بل بنية استعمارية/إحلالية تدعمها قوى عالمية.
  • في سوريا: ليست فقط "ثورة/نظام"، بل صراع بُنى إقليمية ودولية متشابكة (روسيا، إيران، أميركا، تركيا…).

 الخلاصة

الواقعية النقدية تُعلِّمنا أن نذهب وراء المشهد الظاهر لنكشف الطبقات العميقة التي تتحكم بالواقع. ولهذا فهي أداة نافعة لفهم الشرق الأوسط، لا نرى مجرد حكومات وانتخابات وخطابات، بل نرى شبكات قوة/اقتصاد/خطاب/تدخل خارجي تصنع المشهد وتعيد إنتاجه.

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية