حين تحررت أوروبا من سلطة الكنيسة.. حقيقة الثورة الفرنسية

 

حين تحررت أوروبا من سلطة الكنيسة.. حقيقة الثورة الفرنسية

بقلم عدنان الطائي

مدخل تحليلي

حين نتأمل التاريخ، لا نكاد نفرّق بين نصٍّ كتب ليكون شاهدًا على عصره، وآخر كُتب ليكون سلاحًا بيد السلطة أو الأيديولوجيا. فالذاكرة الإنسانية ليست صفحة بيضاء، بل مرآة تتكسّر في وجوه متعدّدة، تعكس كل منها زاوية مختلفة للحقيقة. ومن هنا، وجدت نفسي إزاء ما قرأته عن الثورة الفرنسية، وما تبعها من مقالات في الفكر الماسوني والصهيوني، أمام ضرورة إعادة النظر: هل نحن أمام وقائع نزيهة أم أمام خلط متعمّد للأوراق؟

لقد حذّر ابن خلدون منذ قرون من أن التاريخ كثيرًا ما يُروى بغير أمانة، إمّا لميل الراوي، أو لرغبة السلطة، أو لتأويلٍ متعسّف يحمّل الماضي ما لا يحتمل. وهذا ما يجعل مهمة الباحث ليست ترديد ما قيل، بل تفكيكه، غربلته، وإعادة بنائه على أسس عقلية ومنهجية، بعيدًا عن التطرف في التأويل، وقريبًا من الإنصاف للحقيقة.

إنني، إذ أخوض في هذه المقالة التحليلية النقدية، لا أبتغي تبرئة طرف أو إدانة آخر، بل وضع النقاط على الحروف، وتحديد ما هو ثابت وما هو ملفّق، بحيث نمنح التاريخ فرصته ليتكلّم بلسان الوقائع لا بلسان الأهواء. فالتاريخ – في نهاية المطاف – ليس كتابًا مغلقًا، بل سؤال مفتوح، يتجدّد بقدر ما نملك من شجاعة وصدق في قراءته.

   الثورة الفرنسية (1789) ليست حدثًا عابرًا، بل محطة فاصلة في التاريخ الإنساني. جاءت ضد تحالف العرش مع الكنيسة الكاثوليكية وضد السلطة المطلقة، فرفعت شعارات الحرية، المساواة، الأخوة، وأرست مبدأ فصل الدين عن السياسة، وجعلت الشرعية للحاكم مستمدة من الدستور والشعب لا من رجال الدين. لكن بعض الأقلام تحاول اليوم تصوير الثورة على أنها مؤامرة ماسونية أو خطة يهودية للهيمنة على أوروبا. لكن الحقيقة التاريخية وبحيادية علية المستوى تشير الى ان السلطات في اوروبا كانت قبل الثورة الفرنسية بيد الملك والإقطاع، مستندة إلى شرعية دينية منحها البابا وسلطة الكنيسة الكاثوليكية، حتى كاد الحاكم يُنظر إليه كظلّ الله في الأرض. هذه العلاقة بين العرش والكنيسة جعلت السلطة مطلقة ومحصّنة ضد النقد. ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقلب هذا النظام رأسًا على عقب، فطرحت مبادئ كبرى أصبحت لاحقًا شعارات عالمية:

  • الثورة استمدت روحها من فلاسفة التنوير (روسو، فولتير، مونتسكيو)، لا من مؤامرات سرية.
  • صحيح أن بعض قادتها كانوا من الماسونيين، لكن الثورة اندلعت أساسًا بسبب الجوع، الفقر، الضرائب الباهظة، وفساد النظام الملكي.
  •  أما الصهيونية فلم تظهر إلا بعد قرن تقريبًا.

نعم، الليبرالية التي خرجت من رحم الثورة أنتجت جدلًا أخلاقيًا فيما بعد، بين من رأى الحريات أساس الكرامة الإنسانية، ومن رآها بابًا للفوضى والانحلال. لكن ذلك لا يلغي أن الثورة كانت خطوة تاريخية نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان. اذ مُنح اليهود حقوق المواطنة لم يكن استبدالًا لسلطة الكنيسة بسلطة "الكنيس"، بل كان جزءًا من تطبيق حقوق الانسان 

1.الثورة الفرنسية ومبادئها المباشرة

• حقيقة مؤكدة: الثورة الفرنسية (1789) جاءت ضد الحكم المطلق للملوك والسلطة الإقطاعية وضد تحالف العرش مع الكنيسة الكاثوليكية.

• رفعت شعار الحرية، المساواة، الأخوة، وأضافت أيضًا مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة.

• هذه المبادئ لم تكن بالضرورة مرتبطة باليهودية أو البروتستانتية بشكل مباشر، بل استندت إلى فلسفات عصر التنوير (فولتير، روسو، مونتسكيو، ديدرو...)، أي حركة فكرية عقلانية إنسانية تسعى للقطع مع سلطة رجال الدين.

2. مارتن لوثر والبروتستانتية

• صحيح تاريخيًا: مارتن لوثر (1483–1546) أسس حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا وهاجم فساد الكنيسة الكاثوليكية.

• كتب بالفعل نصوصًا عن اليهود، لكن موقفه لم يكن ثابتًا: في بداياته تعاطف معهم ودافع عن حقوقهم في عام 1523 لكن لاحقًا انقلب عليهم بشدة وكتب نصوصًا معادية لهم (1543).

• القول بأن الثورة الفرنسية "استمدت أفكارها" من لوثر مباشرة فيه مبالغة، لأن الثورة جاءت بعد حوالي 250 سنة من زمنه، ومرّت أوروبا خلالها بتطورات فكرية ضخمة (التنوير، العلمانية، الفلسفة العقلانية).

اذن الثورة الفرنسية كانت ثورة شعبية ضد الاستبداد والظلم، وليست مشروعًا ماسونيًا أو صهيونيًا. النقد العلمي مطلوب، لكن التأويلات المؤامراتية لا تخدم الحقيقة ولا وعي الشعوب. 

 3. دور الماسونية

  صحيح جزئيًا: بعض قادة الثورة الفرنسية كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، والماسونية بالفعل رفعت شعارات "حرية، مساواة، أخوة". لكن القول إن الثورة الفرنسية كانت مشروعًا ماسونيًا بالكامل يفتقد إلى الدليل القاطع. الثورة كانت بالأساس انفجارًا شعبيًا ضد الجوع والفقر والضرائب الباهظة، ثم حملتها الطبقة البرجوازية. علما ان الماسونية منظمة غامضة تاريخيًا، نعم، لكنها ليست التفسير الوحيد للأحداث.. اذ بعض قادة الثورة الفرنسية كانوا بالفعل أعضاء في المحافل الماسونية (مثل لافاييت، ميرابو، ودوق أورليان "فيليب المساواة"). لكن لا يوجد دليل تاريخي يثبت أن الثورة كلها كانت مشروعًا ماسونيًا. هي بالأحرى ثورة اجتماعية/شعبية استغل الماسونيون جزءًا من شعاراتها:

 خلاصة القول ان الماسونية كانت وما زالت تنظيمًا عالميًا غامضًا ضم أعضاء من مختلف القوميات: عرب، مسلمون، إنجليز، هنود، وغيرهم. ولا يمكن حصرها بجماعة واحدة أو بجنسية واحدة، فهي إطار رمزي/فلسفي اتسع لكثيرين، بعضهم انخرط عن قناعة، وبعضهم وظّفها لأغراض سياسية. فان ربط الثورة الفرنسية بالماسونية كليًا اختزال مبالغ فيه، لكن لا يمكن إنكار أن الماسونيين كانوا جزءًا من مشهدها. حيث نجد هناك عن بعض الشخصيات العربية والأجنبية التي أُشيع أو وُثّق انتماؤها أو علاقتها بالماسونية، مع ملاحظة أن كثيرًا من هذه المعلومات تبقى محل جدل بين المؤرخين، حيث تختلط الحقائق بالأساطير:

 في الغرب

  • جورج واشنطن (1732-1799): أول رئيس للولايات المتحدة، عضو موثق في المحافل الماسونية الأميركية، وقد أقيم له نصب تذكاري ماسوني بواشنطن.
  • بنجامين فرانكلين (1706-1790): من أبرز مؤسسي أميركا، وكان نشطًا في المحافل الماسونية بفرنسا والولايات المتحدة.
  • ونستون تشرشل (1874-1965): رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعضو في محفل "ستود هولمز" عام 1901.

 في العالم العربي والإسلامي

  • رفاعة الطهطاوي (1801-1873): رائد النهضة الفكرية في مصر، ذكر بعض المؤرخين أنه شارك في محافل فكرية مرتبطة بالماسونية في باريس.
  • صالح جبر (1896-1957): رئيس وزراء العراق (1947)، ذكرت بعض المصادر أنه كان على صلة بمحفل ماسوني ببغداد.
  • العوائل البيروتية والدمشقية الشهيرة: مثل آل سرسق وآل تقلا (مؤسسي صحيفة "الأهرام")، اتُّهم بعض رموزها بالانتماء للماسونية في القرن التاسع عشر، خصوصًا ضمن محفل "الشرق الأعظم".  وكذلك هناك أسماء بارزة كانت في المحافل الماسونية مثل: جبران خليل جبران (الكاتب والأديب وأمين الريحاني والمفكر والأديب شكيب أرسلان الزعيم السياسي والفكري.
  • من الهند
  • موتيلال نهرو (والد جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند المستقلة).
  • راجيندرا براساد (1884-1963): أول رئيس للهند بعد الاستقلال، يقال إنه كان قريبًا من المحافل الماسونية البريطانية.
  • نهرو (1889-1964): لم يثبت انضمامه رسميًا، لكن بعض خصومه السياسيين اتهموه بالتواصل مع المحافل الفكرية ذات الصلة بالماسونية.

 خلاصة:
الماسونية كانت تنتشر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كمنظمة عالمية ذات طابع اجتماعي وفكري، وانخرط فيها سياسيون ومفكرون من الغرب والشرق. غير أن اتهام جميع هؤلاء بأنهم "أدوات ماسونية" يحتاج إلى تدقيق، فالبعض انضم بدافع الانفتاح الثقافي، والبعض الآخر ربما كان يهدف للاستفادة السياسية.

4. الربط بالصهيونية واللوبي اليهودي

• هنا يدخل التأويل المؤامراتي: لا توجد وثائق تاريخية معتبرة تؤكد أن الثورة الفرنسية كانت تهدف إلى استبدال سلطة الكنيسة الكاثوليكية بسلطة "الكنيس اليهودي".

• صحيح أن اليهود في أوروبا استفادوا من الثورة، إذ أُعطوا حقوقًا كمواطنين بعد أن كانوا مضطهدين، لكن هذا كان جزءًا من فكرة "المواطنة" الشاملة، وليس خطة للسيطرة على أوروبا.

• الصهيونية نفسها لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر (تيودور هرتزل 1897).

5. الإباحية والحريات

• الثورة رفعت شعار الحريات الفردية، منها حرية التعبير والضمير والدين.

• لكن الإباحية لم تكن هدفًا رسميًا للثورة، وإنما جاءت لاحقًا مع تطورات الفكر الليبرالي في القرنين 19 و20.

• القول إن الحرية = الإباحية هو تبسيط وتفسير أيديولوجي، وليس توصيفًا دقيقًا.

6. الإسلام والانشقاقات

• ما ذكرته حول الانقسامات داخل الإسلام (مذاهب، طوائف، فتن) صحيح تاريخيًا. وهذا يثبت أن أي دين كبير يتعرض للتسييس والتأويل.

• الدين كما قلت إلهي مطلق، بينما التدين بشري نسبي، يصيبه ما يصيب البشر من فساد ومصالح. 

7. مشروع الدين الإبراهيمي

• مشروع حديث طرحته بعض الدول (الإمارات مثلاً في السنوات الأخيرة) لتقريب الديانات السماوية الثلاث تحت عنوان "الإبراهيمية".

• لكن القول إنه مؤامرة ماسونية أو يهودية ليس مثبتًا تاريخيًا، بل هو تحليل سياسي وديني معاصر يراه البعض كخطوة للتطبيع أو لتفريغ الأديان من مضمونها.

8. التطرف في الديانات السماوية: رؤية تحليلية

تُعد الديانات السماوية الثلاث — الإسلام، المسيحية، واليهودية — من أهم الروافد الحضارية والأخلاقية في تاريخ البشرية. وقد أسهمت نصوصها في بناء منظومات القيم الإنسانية وساهمت في إشاعة السلم المجتمعي ودعم حقوق الإنسان. ورغم ذلك، فقد شهدت هذه الديانات عبر العصور جماعات أو أفراداً تبنوا تأويلات متشددة أو متطرفة انعكست بصورة سلبية على صورتها العامة. نجد ان منبع التطرف غالباً من تفسيرات ضيقة أو متشددة للنصوص الدينية، حيث يعتمد المتطرفون على اجتزاء النصوص خارج سياقها أو تفسيرها بما يخدم توجهاتهم ورؤاهم الخاصة. وفي كثير من الأحيان، تلعب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً في تغذية هذه التأويلات المتشددة، مستغلة مشاعر الظلم أو التهميش أو الصراعات القومية. حيث برزت في التاريخ الإسلامي جماعات تبنت منهج التشدد والغلو، مثل بعض الفرق عبر العصور. وفي العصر الحديث، ظهرت جماعات متطرفة مثل ما يُعرف بـ"داعش" وغيرها، والتي استندت إلى تفسيرات متشددة للنصوص الدينية. ومع ذلك، فإن غالبية علماء المسلمين ومؤسساتهم الدينية يدينون هذه الممارسات وينفون أي صلة بينها وبين تعاليم الإسلام الأصيلة التي تدعو للرحمة والتسامح واحترام الإنسان. وكذلك ظهر التطرف

 - في اليهودية، توجد أيضاً تيارات متشددة ظهرت في سياقات تاريخية وسياسية معينة. من بين هذه التيارات، هناك بعض الجماعات التي تتبنى الفكر الصهيوني الديني المتشدد، والذي أحياناً يستخدم النصوص الدينية لتبرير ممارسات عنيفة أو إقصائية. لكن يجب التنويه أن كثيراً من اليهود حول العالم يرفضون هذه الممارسات ويدعون للتعايش والسلام.

- في المسيحية، عبر التاريخ، شهدت المسيحية أيضاً حركات متشددة، سواء في العصور الوسطى أو الحديثة، مثل بعض الجماعات التي انخرطت في أعمال عنف باسم الدين. كما أن بعض الحركات المتطرفة استخدمت نصوص الكتاب المقدس لتبرير مواقف عدائية ضد الآخرين. غير أن الغالبية العظمى من المسيحيين اليوم تنبذ العنف والتطرف وتدعو إلى قيم المحبة والسلام.

   اذن من المهم التفريق بين جوهر العقائد الدينية وتعاليمها الأصلية، وبين ممارسات الجماعات أو الأفراد الذين يختارون تأويل النصوص بما يخدم مصالحهم أو أيديولوجياتهم الخاصة. غالباً ما تكون هذه الممارسات مرتبطة بظروف سياسية أو اجتماعية أكثر من ارتباطها بجوهر الدين نفسه. لذا يمكن القول إن التطرف ظاهرة عابرة للأديان والثقافات، ولا تخص ديناً بعينه. وتبقى مسؤولية المجتمعات والمؤسسات الدينية في نشر التفسير السليم للنصوص الدينية وتعزيز قيم التسامح والاعتدال. فالدين في جوهره يدعو إلى السلام، وأي انحراف عن هذا المسار هو نتاج لعوامل متعددة وليس من صميم العقيدة. من الأدق أن نقول: الثورة الفرنسية حررت أوروبا من سلطة الكنيسة، لكنها فتحت أيضًا الباب لليبرالية الحديثة، التي قد يراها البعض إيجابية (حقوق إنسان، ديمقراطية) وسلبية (تفكيك الأسرة، الإباحية).

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية