الخبز الحافي والبؤساء: جوع واحد بلُغتين

 

الخبز الحافي والبؤساء: جوع واحد بلُغتين

بقلم عدنان الطائي

    رواية الخبز الحافي لمحمد شكري واحدة من أبرز الروايات العربية التي أثارت جدلاً واسعاً منذ صدورها، لما فيها من جرأة غير مسبوقة في تناول الفقر، البؤس، والجسد في سياق اجتماعي وسياسي قاسٍ. حيث يتحدث الراوي المغربي محمد شكري (1935 – 2003) عن سيرته الذاتية.. عن طفولته وشبابه في المغرب خلال اربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.. تبدأ الرواية من طفولة شكري الفقيرة في الريف المغربي، هروبه من عنف أبيه، وتجربته المريرة في طنجة. وصور حياة المهمشين من فقر وجوع وانحراف والبغاء والمخدرات والعنف، السرد كان مباشرا وصادم يخلو من التجميل الأخلاقي، بل يعرض الإنسان عارياً في أقصى درجات انكساره، ورغم قسوته، فإن النص مليء بالبحث عن كرامة الإنسان والرغبة في النجاة.. لغة الرواية واقعية، فجة، بلا أقنعة. هذا جعلها مختلفة عن كثير من الروايات العربية التي اعتادت التورية والزخرف اللفظي. حيث استعمل شكري سرداً بسيطاً ومباشراً، لكنه مكثف وصادم. فالقيمة الفنية للرواية انتمائها إلى تيار الأدب الواقعي الفج (Raw realism) أو الأدب الاعترافي. حيث كسرت المحرمات في الأدب العربي (الجنس، الجوع، العنف الأسري). وتعتبر شهادة اعتراف على المغرب السفلي.. العالم المنسي المهمّش تحت سطح المجتمع الرسمي. فقد اثارت الرواية جدلاً واسعاً بين من رآها شهادة إنسانية جريئة، ومن اتهمها بالإباحية. لكنها بلا شك رفعت صوت "المقموعين" وجعلت الأدب مساحة للحقيقة العارية. فهي أقرب من رواية "أحدب نوتردام" لفيكتور هوغو أو "البؤساء" لهوغو من زاوية الاهتمام بالمهمشين، لكن من حيث الصدمة المباشرة أقرب إليها:

  • رواية "اعترافات" لجان جاك روسو (Confessions) من حيث الطابع الاعترافي والبوح الشخصي الجريء.
  • وكذلك رواية "ذكريات منزل الموتى" لدوستويفسكي (Notes from a Dead House) التي تكشف بؤس المساجين وحياتهم القاسية.

لكن أقوى مقارنة نقدية عادةً تكون مع رواية هنري ميلر (مدار السرطان (Tropic of Cancer, 1934 بسبب التشابه الكبير في الطابع الصادم، الجرأة الجنسية، والبوح العاري عن حياة الجوع والتسكع. كلا العملين واجها المنع والرقابة في بلديهما.

 مجمل القول: رواية الخبز الحافي هي مرآة دامية لواقع عربي مسكوت عنه، تمثل صرخة جوع وحرمان أكثر من كونها مجرد نص أدبي. نقدياً، يمكن القول إنها وضعت محمد شكري في مصاف الأدباء الذين كتبوا من "قاع المجتمع"، وأقرب أخت أوروبية لها هي رواية مدار السرطان لهنري ميلر. كما ان هناك تقارب بين الخبز الحافي لمحمد شكري وأعمال فيكتور هوغو، كما قلنا، لكن بطبيعة مختلفة.. فنجد اوجه تشابه مع فيكتور هوغو من خلال:

1.الاهتمام بالمهمشين والفقراء: هوغو في البؤساء وأحدب نوتردام جعل أبطال رواياته من الطبقات المنسية (جان فالجان، كوازيمودو...)، مثلما جعل شكري من نفسه ومن حوله أبطالاً من "قاع المجتمع". اذن كلاهما يرى أن الكرامة الإنسانية ليست مرتبطة بالمكانة الاجتماعية، بل بقدرة الإنسان على المقاومة والنجاة.

2. اما في النقد الاجتماعي والسياسي: فهوغو فضح ظلم النظام الملكي والقضائي والطبقي في فرنسا القرن التاسع عشر. بينما شكري فضح الفقر المدقع، التخلف، والعنف الأسري والاجتماعي في المغرب بعد الاستعمار. ففي الحالتين: الأدب يتحول إلى شهادة وإدانة للظلم.

3. اما التراجيدية الإنسانية: فتمثلت شخصيات هوغو غالباً ضحايا الظروف (جان فالجان سجين بسبب رغيف خبز، فانتين ضحية الفقر). اما شكري نفسه كان ضحية للفقر والعنف حتى وجد الخلاص في القراءة والكتابة.. هنا نجد قاسماً مشتركاً: "الفقر يصنع المأساة، والبحث عن الخبز يصنع البطل التراجيدي".

    اما أوجه الاختلاف، فنجده في الأسلوب الأدبي: حيث هوغو كاتب رومنسي، لغته شاعرية، رمزية، مليئة بالمجاز. وشكري كاتب واقعي فج، لغته مباشرة، صادمة، بلا تجميل. غير ان هوغو كان ملتزماً بالمناخ الأدبي الأوروبي المحافظ نسبياً، فلم يتطرق بجرأة إلى الجنس أو الانحراف. وشكري كسر التابوهات العربية والإسلامية في الجنس والعنف والمخدرات، فجاء أكثر صدمة. فالحل والخلاص في أعمال هوغو هناك دائماً أمل بالخلاص الإنساني (التوبة، التضحية، الحب). اما عند شكري الخلاص صعب، يأتي متأخراً عبر الأدب نفسه، وليس عبر الحب أو التضحية.

 واخيرا يمكننا القول إن الخبز الحافي يلتقي مع هوغو في فضح الفقر وإعطاء صوت للمهمشين، لكن يفترق عنه في الأسلوب (الواقعية الفجة مقابل الرومانسية الملحمية) وفي التعامل مع المحرمات.
إذا كانت البؤساء رواية عن "مأساة الفقر في فرنسا القرن 19"، فإن الخبز الحافي هي رواية عن "مأساة الفقر في المغرب القرن 20". ففي تاريخ الأدب، ثمة نصوص لا تُقرأ باعتبارها مجرد حكايات، بل بوصفها صرخات كبرى في وجه الظلم الإنساني. هكذا يلتقي محمد شكري في الخبز الحافي مع فيكتور هوغو في البؤساء، على الرغم من اختلاف القارات والعصور. فكلاهما كتب عن الفقر لا كحدث عابر، بل كقدر يطبع الوجوه، ويشوّه الطفولة، ويقود الإنسان إلى حافة الجوع والجنون. ف الخبز… يكون رمزا كونيا للجوع

عند هوغو، يبدأ المصير التراجيدي بـسرقة رغيف خبز؛ لحظة صغيرة تتحول إلى قدر أبدي يقذف جان فالجان إلى السجن والتيه. وعند شكري، الخبز ليس رمزاً ولا استعارة، بل هو الحقيقة اليومية المرة: الجوع الذي يطارد طفلاً في شوارع طنجة، يدفعه إلى التسول، الانحراف، وحتى مواجهة قسوة الأب والمجتمع. هنا يتجلى الخبز كـ"قَدَر كوني"، يعبر الأزمنة والأمكنة، ليعلن أن الإنسان حين يجوع لا يبقى سوى الجسد والصرخة.

    فالرويتان امتازتا بأسلوبين متقابلين: ملحمة الرومانسية وصراحة الاعتراف: هوغو يكتب بلغة شاعرية، يسكب على بؤس شخصياته هالة من النور، فيجعل من العاهرة ملاكاً ومن السجين بطلاً ملحمياً. عالمه قاسٍ، لكنه لا يخلو من عزاء وحلم بالخلاص عبر الحب أو التضحية. أما شكري، فيسرد بواقعية عارية، بلا أقنعة ولا تزويق. لغته صادمة، كأنها صفعة في وجه القارئ، لأنه لا يقدّم أملاً رومانسياً، بل يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة العارية: الجوع، المخدرات، الجنس، والعنف الأسري. إذا كان هوغو يزرع الورود في خرائب الفقر، فإن شكري يكتفي بأن يرفع الغطاء عن الخرائب ليكشف رائحتها كما هي. 

    رغم هذا التباين، يلتقي الكاتبان في جوهر واحد ضمن تراجيدية إنسانية واحدة.. البطل عندهما هو المهمش. ففي البؤساء: جان فالجان، فانتين، كوازيمودو… رموز لإنسان مسحوق لكنه مشبع بإنسانية سرية. اما في الخبز الحافي: الطفل الجائع، العاهرة، المتسكع… ليسوا رموزاً بل أشخاصاً حقيقيين، يمشون بيننا في أزقة المغرب المنسي. كلاهما إذن يكتب "من تحت"، من حيث لا يلتفت التاريخ الرسمي، ليعطي صوتاً لمن صمتهم المجتمع.

اما مدى أثرهما في القارئ العربي فقد تأثر بكليهما دون أن يفرّق كثيراً بينهما:

  • قرأ البؤساء مترجماً، فوجد فيه صورة لبلاده: الفقر، ظلم القضاء، قسوة الطبقات. كانت فرنسا في القرن التاسع عشر تشبه مدنه وأريافه.
  • ثم جاء الخبز الحافي فكان الصدمة الكبرى، لأنه لم يعد نصاً عن "الآخر"، بل عن ذاته وواقعه المباشر: هنا الفقر عربي، الجوع عربي، والعنف عربي.

لذلك استقبل القارئ العملين بحميمية واحدة، إذ رأى فيهما معاً مرآة لآلامه ومصيراً إنسانياً مشتركاً يتجاوز الجغرافيا. فالكتابان من عالمين متباعدين، لكنهما يلتقيان في حقيقة واحدة: أن الفقر ليس قدراً سماوياً، بل جرحاً اجتماعياً وسياسياً صنعته يد الإنسان. الأول يصوغ المأساة في ملحمة رومانسية، والثاني يسكبها اعترافاً فجّاً لا يعرف الرحمة. وبين الاثنين، ظل القارئ العربي يرى ذاته في المرآة، مرة عبر كلمات فرنسية مشبعة بالشعر، ومرة عبر اعتراف مغربي مشبع بالدمع والجوع، دون أن يميّز بينهما… لأن الوجع الإنساني واحد، ولأن الأدب حين يلامس الجوع يتحول إلى لغة كونية.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية